بسم الله الرحمن الرحيم حكم عبث الحكام في المال العام موضوع مهم وراق لي نقلته .. كتبه أ.د/ عبد الكريم بن يوسف الخضر أستاذ الفقه المقارن في كلية الشريعة في جامعة القصيم سبب الكتابة: جاءت أحداث ما يسمى بالربيع العربي مما نتج عنه ثورات تونس ومصر وليبيا وسوريا بكل ما اشتملت عليه من تغييرات فأنتجت كشف جانب كبير من تجاوزات لأحكام الله متعددة واستغفال لأمة الإسلام متكررة, وفضائح مختلفة منها ما يتعلق بالجانب الشرعي الصرف في حكم الأمة من قبل أحكام يدعون الإسلام ويتكلمون باسمه إن احتاجوا له فيقتلون ويعتقلون ويسرقون وينهبون بطريقة يشرعها لهم بعض مدعي الإسلام من طلبة علم للدنيا ومفتي إباحة المحرمات, ومنها ما يتعلق بالجانب الأمني والذي أصبح شغله الشاغل حماية الحاكم على حساب غفلته عن حماية الشعب وكأن هؤلاء العسكر موظفين عنده لا عند الأمة, ومنها ما يتعلق بالجانب الأخلاقي والاجتماعي والذي تم العبث فيه بما يتوافق مع توجهات الحاكم في خلخلت التركيبة الاجتماعية وإفساد الأخلاق التي تساعد على تلاحم المجتمع وتزيد من أواصره, ومنها ما يتعلق بالجانب الاقتصادي والمالي وكيف أنهم عبثوا في المال حتى إن بعضهم سخر المال لقتل أفراد شعبه باستئجار المرتزقة وتصدير الثروات وتمويل الجرائم العالمية,ودعم الحركات الانفصالية وشراء المناصب الدولية, هذا ما أريد أن أتحدث عنه بشي من التفصيل على أن لا أشتت ذهن القارئ فأقول: وجوب تحديد الأمة لمخصصات الحكام: إن الأمة ممثلة في نوابها الذين تقوم باختيارهم ولا يفرضون عليها-بتعيين او تزوير انتخابات-هي صاحبة الاختصاص في تحديد العطاء المخصص للخليفة(راتب الرئيس أو الأمير أو الملك)، ولها حق التدخل في مراجعة ما يقرره الحاكم من رواتب ومخصصات مالية لمستشاريه وعماله ووزرائه ، فبالرجوع إلى التاريخ وقراءة السير نجد أن الأمة الإسلامية ممثلة في نوابها من عرفائها وأهل الحل والعقد، هي التي فرضت للخلفاء المرتبات ، مقابل تفرغهم لمهامهم . ولذلك فرض الصحابة لأبي بكر رضي الله عنه من بيت المال مرتبه والذي لم يكن يتجاوز في مقداره قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا أركسهم، وكسوة الشتاء والصيف . وذلك أنه حينما تم استخلاف أبا بكر على خلافة المسلمين أصبح غاديا إلى السوق كعادته وعلى رقبته أثواب يريد أن يتجر بها فلفيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ فقال لهم: إلى السوق، فقالا له: ماذا تريد أن تصنع وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقال أصحاب رسول الله: افرضوا للخليفة ما يغنيه، فجعلوا له ألفين، فقال: زيدوني فإن لي عيالا وقد شغلتموني عن التجارة فزادوه" وفي عهد عمر رضي الله عنه جاء عنه ".. إنه لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتين: حلة للشتاء وحلة للصيف، وما أحج به وأعتمر، وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين" وقد أكد ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما قال لعمر بن الخطاب بعد توليه الخلافة "لك من هذا المال ما يقيمك ويصلح عيالك بالمعروف وليس لك من هذا المال غيره ". وهذا تذكير من علي بن أبي طالب لأمير المؤمنين في وقته وحاكم المسلمين في عصره عمر بن الخطاب بأنه ليس له من الحق في مال المسلمين الا في حدود ما يعينه على أداء وظيفته، ويلبي حاجات أهله بالمعروف، وليس له أن يطمع في المزيد منه بل مثله مثل بقية المسلمين فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه من خلال هذا الكلام حاول بيان وإظهار ماهية الضوابط التي يجب مراعاتها عند تحديد رواتب الحاكم،ومستشاريه وعماله .وأنه يجب على الأمة ونوابها أن تحدد وتقنن صلاحيات وسلطة الحاكم في المال العام فلا يجوز له إن يعبث به وان يعطي منه من شاء ويمنع من شاء بهواه وشهوته. وان تصرفاته غير مطلقة في المال العام، فهو فيه بمنزلة الأجير، ولذلك ثبت عن أبي بكر رضي الله عنه في مرض موته أنه قال: "إني ما أصبت من دنياكم في مال الله، وفيء المسلمين مقام الوصي في مال اليتيم، إن استغنى أتعفف، وإن افتقر أكل بالمعروف"فهو لا يأكل أو يوكل بما زاد عن حاجته وفضل عن رغبته وهذا ما أكده عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بداية عهد خلافته ، وقال: "والله ما كنت أرى هذا المال يحق لي من قبل أن أليه إلا بحقه، وما كان قط أحرم علي منه إذ وليته، فأصبح أمانتي" وأخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن مقدار ما يحل للخليفة في بيت مال المسلمين، ومثل بنفسه فقال: "يحل لي حلتان حلة في الشتاء وحلة في القيظ وما أحج عليه وأعتمر من الظهر وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش، ليس بأغناهم ولا بأفقرهم ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم وإني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، لا يحل لي من هذا المال إلا ما كنت آكلا من صلب مالي" حكم استئثار الحاكم بأكثر مما قررته الأمة له: وما عدا ذلك لا يجوز للحاكم أخذه بأي حال من الأحوال إلا بإذن المسلمين ولو كان بحاجة إليه. ولو ثبت أنه أخذ منه أكثر مما حدد له فإنه يعتبر من الغلول والذي هو أكبر إثما من السرقة, ونعني بالغلول هو أن يستأثر من كلف بجباية شي أو استرعي على أمانة فأخذ مما كلف بجبايته أو استأمن عليه بدون وجه حق.كما ثبت في الحديث الصحيح المسمى حديث ابن اللتبية: وهو ما رواه أبو حُميد الساعدي قال: استعمَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من بني أسد يُقال له: ابن اللُّتْبيَّة - قال عمرو وابن أبي عمر: على الصدقة - فلمَّا قَدِم، قال: هذا لكم، وهذا لي أُهْدِي لي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فحَمِد الله وأثْنَى عليه، ثم قال: ((ما بال العامل نَبعثه فيأتي، فيقول: هذا لك وهذا لي، فهلاَّ جلَس في بيت أبيه وأُمِّه، فيَنظر أيُهْدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلاَّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيْعَر))، ثم رفَع يديه؛ حتى رأَيْنا عُفْرتَى إبطَيه: ((ألا هل بلَّغْت؟!)) ثلاثًا؛ فهذا الحديث بين إن ما أخذه الجابي أو العامل من مال المسلمين محرم ويعد من الغلول تسويغ المفتين الحرام للسلاطين: ولذلك فإننا نقول لبعض المفتين الذين أباحوا للحاكم التهوك في مال الأمة بأي دليل أبحتم له ذلك ولماذا تخسروا أنفسكم أخرتكم ليربح الحاكم دنياه. وهذا ما حاول الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه التأكيد عليه والتأسيس له في وقت خلافته، حيث "خرج يوما حتى أتى المنبر وقد كان اشتكى شكوى له فنعت له العسل وفي بيت المال عكة، فقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها وإلا فإنها علي حرام، فأذنوا له فيها. وكان عمر يحلف على أيمان ثلاثة ويقول: "والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد وما أنا بأحق به من أحد. والله ما من المسلمين أحد إلا له في هذا المال نصيب إلا عبدا مملوكا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام" فما قول من قال من بعض المفتين بجواز تهوك الحاكم في مال الله وتخوضه فيه وانه كالمالك الخاص له إلا مخالفة صريحة للشرع المبين ! وهل يريد مثل هذا أن يثبت أنه أكثر فهما لنصوص الشريعة من خليفة المسلمين الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه,والذي لزيادة ورعه سأل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي قائلاً: "أتراني مستحقا للقب أمير المؤمنين؟ فأجابه رضي الله عنه قائلاً : "إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة فأستعبر عمر" >>>>>يتبع