تشرق الشمس وتغيب.. ويولد الهلال ويشب ويشيخ..
وتتوالى الشهور تتبعها السنون ولا تزال بعض المواقف متربعة في عرش الذكريات..
فلم تستطع الأيام محوها ولا حتى الليالي.
سأعود عشرات السنين لأقف هناك في منزلنا الطيني الصغير..
حيث أرتدي لباس الطفولة وأعيش عالمها الجميل في كنف والديَّ رحمهما الله رحمة واسعة..
ولا أزال أذكر موقفاً مع والدتي - رحمها الله- أثَّر فيَّ ولا يزال..
كنت أدرس الابتدائية.. بل وفي مراحلها الأولى..
وكان البرد شديداً والفقر مدقعاً فلم أكن أجد ما أتقي به البرد القارس سوى اليسير..
وفي يوم خيم البرد فيه على مدينتنا فتجاوبت معه البيوت بالصقيع..
وقد ذهبت إلى المدرسة كعصفور مبلول ينتفض..
فرأيت بعض زملائي في الصف وقد ألبس كفيه (مداسيس) تقيه من البرد..
فتمنيت بمشاعر طفل أن لو كان عندي مثلها وعدت إلى البيت مكلوماً..
ولجأت إلى أمي فبكيت بين يديها وبحت لها بما أريد وأن صديقي يلبس القفازات ..
فلم لا ألبسها أنا؟؟!
تأثرت الوالدة ولكن ماذا عساها أن تصنع.. وليس في مقدورها ذلك لقلة ذات اليد..
بكيت.. وبكيت.. حتى تطابقت الأجفان معلنة عن نوم عميق..
لم يقطعه عليَّ سوى صوت أذان الفجر وصياح الديك..
لأفاجأ بأمي جالسة في طرف الغرفة تغالب النوم ..
وقد سهرت ليلها كله تنسج لي قفازات من بعض الأقمشة التي جمعتها من هنا وهناك..
حتى سلمتها لي قبيل ذهابي إلى المدرسة..
جبراً لخاطري.. وحفاظاً عليَّ.. وفي سبيل ذلك قدمت راحتها ونومها ثمناَ..