الطاهر بن عاشور .. إمام تونس الكبير
(1296-1393هـ) (1879-1972م)
بقلم/ أحمد زكريا
في خضم الثورة التونسية المباركة لابد أن نتذكر رجلا من رجال تونس العظام.. بل قل إن شئت: "أسد من أسودها".
هو عالم تونس الأول بلا منازع.. بل هو من أعلام الدنيا.. جمع بين العلم والعمل.
وقف في وجه الظلم والطغيان حين جبن الجميع.. وآثروا متاع الدنيا الفاني.
صدق الله وكذب بو رقيبة
صدع بكلمة الحق غير هياب ولا وجل في وجه الطاغية السابق "الحبيب بو رقيبة" حين حاول "الحبيبُ بو رقيبة" الرئيسُ التونسي السابق.. دعوة العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج.
وطلب من شيخنا "الطاهر عاشور" أن يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، لكن الشيخ صرح في الإذاعة بحكم الإسلام الصحيح الذي يعرفه بعد أن قرأ آية الصيام.. وقال بعدها:"صدق الله.. وكذب بو رقيبة".. وكان ذلك عام 1961م.
وإذا كان الأزهر في مصر منارة للعلم والعلماء.. فإن "الزيتونة" في تونس، منارة للعلم وقبلة للرجال الأفذاذ الذين قادوا الأمة وأناروا لها الطريق.
ومن هؤلاء النجوم العالم الشجاع "محمد الطاهر بن عاشور" الذي حمل راية الإصلاح في تونس ما يزيد عن نصف القرن من الزمان.. حيث كرس عمره الذي بلغ التسعين في خدمة العلم والإصلاح.
وهذه إطلالة على شيخ جليل نقدمه قدوة لشباب تونس في وقت هم أحوج ما يكونون للقدوة الصالحة.
نقدم لهم نموذجا يحتذي.. ومثلا أعلى في التضحية والرجولة والبذل والعطاء.. ليعلم شباب اليوم أن لهم سلفا حملوا الأمانة من قبلهم.. حتى لا يغرر بشباب تونس خاصة وشباب المسلمين عامة.. وتسرق ثورتهم تحت شعارات خادعة كاذبة.
لأن أعداء الأمة يريدون بكل السبل أن ينزعوا عنه ثوب الإسلام.. ومما يستوجب القلق والانتباه أنك ترى مع بعض شباب تونس المتظاهرين صورا لـ "جيفارا".. وهذا ما يريده البعض أن تنسب الثورة لأي أحد إلا الإسلام.
المولد والنشأة
ولد محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الشهير بالطاهر بن عاشور، بتونس في (1296هـ .. 1879م) في أسرة علمية عريقة تمتد أصولها إلى بلاد الأندلس.
وقد استقرت هذه الأسرة في تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش التي تعرض لها مسلمو الأندلس.. وقد أهدت هذه الأسرة للعالم الإسلامي علمين هما "الطاهر بن عاشور".. وابنه "الفاضل بن عاشور" الذي مات في حياة والده رحمهم االله.
أتم الطاهر القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع"الزيتونة" سنة (1310هـ ..1892م).. وهو في الـرابعة عشر من عمره.. فأظهر نبوغًا منقطع النظير.
وبدأت رحلة الكفاح
تخرج الطاهر من "الزيتونة" عام (1317هـ -1896م)، والتحق بسلك التدريس في هذا الجامع العريق، ولم تمض إلاّ سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة الأولى.. بعد اجتياز اختبارها سنة (1324هـ - 1903م).
وكان الطاهر قد اختير للتدريس في المدرسة "الصادقية" سنة (1321هـ - 1900م)، وكان لهذه التجربة المبكرة في التدريس بين"الزيتونة" ذات المنهج التقليدي.. و"الصادقية" ذات التعليم العصري المتطور.. أثرهافي حياته.
إذ فتحت وعيه على ضرورة ردم الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ويقبلان أن يكونا خطوط انقسام ثقافي وفكري في المجتمع التونسي، وهما:
تيارالأصالة الممثل في "الزيتونة".
وتيار المعاصرة الممثل في "الصادقية".
ودوّن آراءه هذه في كتابه النفيس "أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟" من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة التي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي.
ابن عاشور مجدداً
عين "الطاهر بن عاشور" نائبا أول لدى النظارة العلمية بجامع "الزيتونة" سنة (1325 هـ - 1907).
فبدأ في تطبيق رؤيته الإصلاحية العلمية والتربوية، وأدخل بعض الإصلاحات على الناحية التعليمية.
وحرر لائحة في إصلاح التعليم وعرضها على الحكومة فنفذت بعض ما فيها.
وسعى إلى إحياء بعض العلوم العربية.. فأكثر من دروس الصرف في مراحل التعليم وكذلك دروس أدب اللغة.. ودرس بنفسه شرح ديوان الحماسة لأبي تمام.
ورأى أنّ تغيير نظام الحياة في أي من أنحاء العالم يتطلب "تبدل الأفكار والقيم العقلية.. ويستدعي تغيير أساليب التعليم".
وقد سعى الطاهر إلى إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي في المدن الكبيرة في تونس على غرار ما يفعل الأزهر في مصر.. ولكنه قوبل بعراقيل كبيرة.
أمّا سبب الخلل والفساد اللذين أصابا التعليم الإسلامي فترجع في نظره إلى: "فساد المعلم.. وفساد التآليف.. وفساد النظام العام".. وأعطى أولوية لإصلاح العلوم والتآليف.
ابن عاشور شيخا للزيتونة
اختير ابن عاشور في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة في (صفر 1328هـ - 1910م)، وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية (1342هـ - 1924م)، ثم اختير شيخاً لجامع الزيتونة في (1351 هـ - 1932م)، كما كان "شيخ الإسلام المالكي".
فكان أول شيوخ"الزيتونة" الذين جمعوا بين هذين المنصبين.. ولكنه لم يلبث أن استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح الزيتونة، وبسبب اصطدامه ببعضالشيوخ عندما عزم على إصلاح التعليم في "الزيتونة".
أعيد تعيينه شيخا لجامع الزيتونة سنة (1364 هـ - 1945م)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية.
وحرص على أن يصطبغ التعليم الزيتوني بالصبغة الشرعية والعربية، حيث يدرس الطالب الزيتوني الكتب التي تنمي الملكات العلمية وتمكنه من الغوص في المعاني؛ لذلك دعا إلى "التقليل من الإلقاء والتلقين، وإلى الإكثار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الفهم".
ولدى استقلال تونس أسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية سنة (1374هــ -1956م).
التحرير والتنوير
كان "الطاهر بن عاشور" عالما ً مصلحا ً مجددا ً، لا يستطيع الباحث في شخصيته وعلمه أن يقف على جانب واحد فقط، إلاّ أنّ القضية الجامعة في حياته وعلمه ومؤلفاته هي التجديد والإصلاح من خلال الإسلام.. وليس بعيدا عنه.
ومن ثم جاءت آراؤه وكتاباته ثورة على التقليد والجمود.. وثورة على التسيب والضياع الفكري والحضاري.
وكان لتفاعل "الطاهر بن عاشور" الإيجابي مع القرآن الكريم أثره البالغ في عقل الشيخ الذي اتسعت آفاقه فأدرك مقاصد الكتاب الحكيم وألم بأهدافه وأغراضه.. مما كان سببا في فهمه لمقاصد الشريعة الإسلامية التي وضع فيها أهم كتبه بعد التحرير والتنوير وهو كتاب (مقاصد الشريعة).
مقاصد الشريعة
كان "الطاهربن عاشور" فقيها مجددا يرفض ما يردده بعض أدعياء الفقه من أنّ باب "الاجتهاد" قدأغلق في أعقاب القرن الخامس الهجري.. ولا سبيل لفتحه مرة ثانية.
وكان يرى أنّ ارتهان المسلمين لهذه النظرة الجامدة المقلدة سيصيبهم بالتكاسل وسيعطل إعمال العقل لإيجاد الحلول لقضاياهم التي تجد في حياتهم.
وإذا كان علم "أصول الفقه" هو المنهج الضابط لعملية الاجتهاد في فهم نصوص القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه.. فإنّ الاختلال في هذا العلم هو السبب في تخلي العلماء عن الاجتهاد.
ورأى أنّ هذا الاختلال يرجع إلى توسيع العلم بإدخال ما لا يحتاج إليه المجتهد، وأنّ قواعد الأصول دونت بعد أن دون الفقه، لذلك كان هناك بعض التعارض بين القواعد والفروع في الفقه.
كذلك الغفلة عن مقاصد الشريعة إذ لم يدون منها إلاّ القليل.. وكان الأولى أن تكون الأصل الأول للأصول لأنّ بها يرتفع خلاف كبير.
ويعتبر كتابه (مقاصد الشريعة)، من أفضل ما كتب في هذا الفن وضوحا في الفكر ودقة في التعبير وسلامة في المنهج واستقصاء للموضوع.
محنة التجنيس
لم يكن "الطاهر بن عاشور" بعيدا عن سهام الاستعمار والحاقدين عليه والمخالفين لمنهجه الإصلاحي التجديدي، فتعرض الشيخ لمحنة قاسية استمرت 3 عقود عرفت بـ "محنة التجنيس".
وملخصها أنّ الاستعمار الفرنسي أصدر قانونا في (شوال 1328 هـ - 1910م) عرف بقانون التجنيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين التجنس بالجنسية الفرنسية.
فتصدى الوطنيون التونسيون لهذا القانون ومنعوا المتجنسين من الدفن في المقابر الإسلامية؛ ممّا أربك الفرنسيين فلجأت السلطات الفرنسية إلى الحيلة لاستصدار فتوى تضمن للمتجنسين التوبة من خلال صيغة سؤال عامة لا تتعلق بالحالة التونسية توجه إلى المجلس الشرعي.
وكان الطاهر يتولى في ذلك الوقت سنة (1352 هـ = 1933م) "رئاسة المجلس الشرعي لعلماء المالكية".. فأفتى المجلس صراحة بأنّه يتعين على المتجنس عند حضوره لدى القاضي أن ينطق بالشهادتين ويتخلى في نفس الوقت عن جنسيته التي اعتنقها.
لكن الاستعمار حجب هذه الفتوى، وبدأت حملة لتلويث سمعة هذا العالم الجليل، وتكررت هذهالحملة الآثمة عدة مرات على الشيخ، وهو صابر محتسب.
نهاية الرحلة
وقد توفي الشيخ المجاهد "الطاهر بن عاشور" في (13 رجب 1393 هـ 12أغسطس 1973م) بعد حياة حافلة بالعلم والإصلاح والتجديد والعطاء والجهاد.. وتقديم صورة مثلى للعالم المسلم الشجاع البصير بأحكام دينه العالم بواقعه وأحوال أمته.. الحريص على بذل أقصى جهده لنصرة هذا الدين.. وتحصين أبنائه من مؤامرات أعدائه المتربصين بهم ينتظرون الفرصة لينقضوا على بلاد المسلمين.. مفرقين شملهم ناشرين أفكارهم المسمومة.
كل ذلك لينخلع أبناء الإسلام من دينهم – وكذبوا – فأبناء الإسلام في تونس وفي كل مكان يستشعرون هذا الخطر الداهم، ويعرفون ما يراد بهم وبدينهم وأوطانهم، ولذا هم مرابطون على ثغور الإسلام والأوطان، حتى لا يؤتى الدين والوطن من قبلهم.
نسأل الله العظيم أن يحفظ أوطاننا عن مكر الماكرين، وكيد الكائدين، وأن يرد شعوبنا وأمتنا إلى الإسلام ردا جميلا ً.
منقول من المجلس العلمي في الألوكة (منتديات الألوكة)
من منكم إخواني وأخواتي الكرام كان يعرف منكم هذا المفسر العلّامة الإمام الكبير عالم التحرير والتنوير قبل أن يدخل على هذا المقال؟
أنشروا تؤجروا إن شاء الله.
جزاك الله خير اخي على ماقدمته في هذا الشيخ الجليل فانا قرات معظم كتبه لكن لم اكن اعرف كثير عن سيرته , بارك الله فيك
اللهم آمين واياك أخي مازن وبارك الله فيك أنتَ أيضاً.