الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فإنَّ الله عز وجل قَسَمَ الناسَ في هذه الحياة إلى مؤمن وكافر، شقي وسعيد، وغني وفقير.
والفقر من أقدم المشكلات الإنسانية على الفرد والمجتمع، والإسلام يُنكر الفقر أشدَّ الإنكار، ويجعل الغنى نعمة من نعم الله التي امتن بها على عباده، ويطالب بشكرها، ويجعل الفقر مشكلة يُستعاذ بالله منها، ويطالب المجتمع والأفراد بالصبر عليها، وقد امتن الله على رسوله بأن أغناه من فضله، فقال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى. وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾ [الضحى:6-8].
ولعلَّ المقصود بالغنى في القرآن الكريم: أن يكون مستغنيًا عن الناس، كافًّا يده عنهم، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» [صحيح مسلم].
والكفاف معناه: أن يغطي الإنسان حاجته من ماله من غير دين، كما جاء في «الصحيحين» من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «وذلك كفافًا، لا عليَّ، ولا لي».
وأما الغنى؛ فهو فضلُ مال امتن الله به على عباده، وقد صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نعم المال الصالح، للعبد الصالح» [الأدب المفرد للبخاري].
* المراد بالفقر عند السلف الصالح:
المراد بالفقر عند السلف: قلَّة ذات اليد، فالفقير والمسكين عرفهما أهل العلم، قال الله -جل وعلا-: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد:15-16]، فالمسكين هو الذي لا يجد شيئًا، والفقير هو الذي عنده شيء، لكن رُبَّما لا يقومُ بحاجتِه، وأما الغني العالي؛ فهذا الذي عنده ما يكفي وأهله وزياده، والغني السافل يعني الأسفل منه: هذا الذي عنده ما يسدُّ حاجته.
وليس الغنى عن كثرة العرض، الغنى الصحيح غنى النفس، لكن الغني هو الذي عنده ما يسدُّ حاجته، ولا يجعله محتاجًا إلى الآخرين.
* الفقر والغنى في القرآن الكريم والسنة النبوية:
1- قال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 151].
2- وقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) [الإسراء:31].
3- وقال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [التوبة:28].
4- وقال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم) [البقرة:268].
5- وقال تعالى: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) [البقرة:271].
6- قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد) [فاطر:15].
7- وقال تعالى: (هَا أَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) [محمد:38].
8- قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [يس:47].
* الغنى والفقر في السنة النبوية:
1- عن عائشةَ زوجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يدعُو في الصَّلاةِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَفِتْنَةِ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ، فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ». [أخرجه البخاري ومسلم].
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كاد الفقرُ أن يكون كفرًا». [أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي وإسناده ضعيف].
3- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ أحْيِني مسكينًا، وتوفَّني مسكينًا، واحْشرني في زُمرة المساكين، وإنَّ أشْقى الأشقياء مَن اجتمع عليه فَقْرُ الدنيا وعذابُ الآخرة» [سنن ابن ماجه].
4- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رجل للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله! أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: «أن تصدّق وأنت صحيح حريص، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتّى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان» [متفق عليه].
وقد بوَّب الإمام البخاري بابًا، فقال: «باب فضل الفقر»، ثم ذكر فيه أحاديث، منها:
1- عن سهل بن سعد الساعدي، أنه قال: مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيُكَ في هذا؟»، فقال: رجلٌ مِن أشرافِ الناس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مرَّ رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيُكَ في هذا؟»، فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يُسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا».
2- عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «اطَّلَعت في الجنَّةِ، فرأيتُ أكثرَ أهلها الفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء».
3- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رَفِّي من شيءٍ يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رَفٍّ لي، فأكلت منه، حتى طال عليَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ».
* الغنى والفقر في أقوال اهل العلم:
1- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الرزق رزقان: فرزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك.
2- وقال سعد بن أبي وقاص لابنه: يا بني! إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإنها مال لا ينفد؛ وإياك والطمع فإنه فقر حاضر؛ وعليك باليأس، فإنك لم تيأس من شيء قطُّ إلا أغناك الله عنه.
3- قال ابن مفلح -رحمه الله-: «كان يُقال: الشُّكر زينةُ الغنى، والعفاف زينة الفقر».
ويقال أيضًا: «حقُّ الله واجبٌ في الغنى والفقر، ففي الغنى: العطف والشّكر، وفي الفقر: العفاف والصّبر».
4- قال الراغب: (الفقر أربعة: فقر الحسنات في الآخرة، وفقر القناعة في الدنيا، وفقر المقتني، وفقرها جميعًا، والغني بحسبه، فمن حصل له في الدنيا فقد القناعة والمقتني فهو الفقير المطلق على سبيل الذمِّ، ولا يُقال له: غنيٌّ بوجه).
* الفقر والكفر:
الفقر والكُفر قرينان، إذا رُفِعَ أحدُهما رُفِعَ الآخرُ، وإذا دخلَ أحدُهما بيتًا دخلَ الآخرُ وراءَه، فإذا كان الكفرُ قد حَرَمَ صاحبَه من رحمة الله، ومِن عطاء الله، ومن توفيق الله، فإنَّ الفقرَ قد يَحرِمُ صاحبَه من الإيمان والصبر، فيرمي به في ردهات الكفر وعقابه، إلَّا مَن رَحِمَ ربِّي وعَصَمَ، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «اللهمَّ أحْيِني مسكينًا، وتوفَّني مسكينًا، واحْشرني في زُمرة المساكين، وإنَّ أشْقى الأشقياء مَن اجتمع عليه فَقْرُ الدنيا وعذابُ الآخرة».
وعن مسلم بن أبي بَكْرة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دُبر الصلاة: «اللهم إنِّي أعوذُ بك مِنَ الكُفْر والفقر، وعذاب القبر».
* الغنى غنى النفس:
الغني ليس هو صاحبُ المال، والفقيرُ ليس هو فاقدث المال؛ الغِنَى غِنَى النفْس، والراحة راحةُ القلب، والجمال جمالُ الطبع، والله -عز وجل- يبيِّنُ أنَّ المنزلة في الآخرة، والمكانة عند الله -تعالى- ليست بجمْع المالِ، ولا بإنجاب العيال، وإنما بصالحِ الأعمال؛ عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر! أترى كثرةَ المال هو الغِنَى؟»، قلتُ: نعم يا رسول الله! قال: «فترى قِلَّة المال هو الفقر؟»، قلتُ: نعم يا رسول الله! قال: «إنَّما الغِنى غِنَى القلب، والفقر فقرُ القلب»، ثم سألني عن رجلٍ من قريش، قال: «هل تعرف فلانًا؟»، قلتُ: نعم يا رسولَ الله، قال: «فكيف تراه وتراه؟»، قلتُ: إذا سألَ أُعْطِي، وإذا حَضَرَ أُدْخِل، قال: ثم سألني عن رجلٍ مِن أهْل الصُّفَّة، فقال: «هل تعرف فلانًا؟»، قلتُ: لا، والله ما أعرفه يا رسول الله! فما زال يجليه وينعته، حتى عرفتُه، فقلتُ: قد عرَفْتُه يا رسول الله، قال: «فكيف تراه وتراه؟»، قلتُ: هو رجلٌ مسكين مِن أهْل الصُّفَّة، فقال: هو خيرٌ من طِلاع الأرض من الآخر، قلتُ: يا رسول الله! أفلا يُعْطَى من بعض ما يُعْطَى الآخر، فقال: إذا أُعْطِي خيرًا، فهو أهله، وإذا صُرِفَ عنه، فقد أُعْطي حسنة». [سنن النسائي، وصحيح ابن حبان].
* الحثُّ على العمل والكسب:
الإسلام يحثُّ على العمل؛ قال تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15]، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 105].
وقال صلى الله عليه وسلم: «التاجرُ الصدوق الأمين مع النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء». [سنن الترمذي].
وقال: «ما مِن مسلمٍ يزرعُ زرعًا أو يغرس غرْسًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسان أو بَهِيمة، إلا كانتْ له به صدقة».
والإسلام يحثُّ على الصناعة؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا مِن أن يأكلَ من عمل يده». [صحيح البخاري].
وقال تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله) [المزمل:20].
وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيمَن جلسَ في بيته أو في المسجد، وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رِزْقي؟ قال أحمد: هذا رجلٌ جَهِلَ العِلْمَ؛ أمَا سَمِعَ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: «جُعِلَ رِزْقي تحت ظلِّ رُمْحي؟».
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «لا يقعدنَّ أحدُكم عن طلبِ الرزْق ويقول: اللهم ارزقْني، وقد عَلِمَ أنَّ السماءَ لا تُمْطِر ذهبًا ولا فِضَّة».
وعليه؛ فلا يجوز التكاسُلُ عن العمل بحجَّة أخْذ الصدقات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحلُّ الصدقةُ لغَني، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ». [سنن الترمذي].
والمِرَّة: القوي، والسَّوِي: السليم الأعضاء، وهذا ما يسميه أهل العلم بفقر الكسل المذموم، الذي يُحاسب الإسلام عليه، فعن عبد الله بن عَمرِو بنِ العاصِ، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كفى بالمرءِ إثمًا أن يُضيِّعَ من يقوتُ». [صحيح مسلم].
إلا أن على الإنسان أن لا يشغل نفسه بالرزق كثيرًا، فرزق الإنسان آتيه، يقول عليه الصلاة والسلام: «إنِّي لا أعلمُ شيئًا يُبعدكم من الجنة، ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه، وإنَّ الروح الأمين نفث في روعي: أن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها؛ فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب». [رواه بن أبي الدنيا في «القناعة»، والحاكم والبيهقي في «شعب الإيمان»].
فالرزق مضمون، لكنه يحتاج إلى حركة، إلى سعي، أرأيت إلى الطير، تغدوا خماصًا، وتعود بطانًا، كأن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر الطير ليضرب المثل الأعلى في ضمان الرزق، ومع ذلك تغدوا من أعشاشها خماصاً، وتعود بطاناً، قال عليه الصلاة والسلام: «لو أنَّكم كنتم توكلون على الله حقَّ توكله، لرزقتم كم