---------
كنت اليوم نوبتجي جراحة الأعصاب بإحدي المُستشفيات الخاصَّة، وأثناء تواجدي بقِسْم الطوارئ للكشف علي مريض، فُوجِئت بأصواتٍ عالية تأتي من خارج المستشفي وتَقتَرِبُ مِنَّا شيئاً فشئ، ثم فُتِح باب الطوارئ بدَفعَةٍ قَويَّة من (تُرولِّي) عليه سيِّدة، يجُرُّه بعض الشباب و بجانبهم رَجُل يَحمِل طفلةً علي كَتفِه ويُمسِك بالأُخري في يَدِه، وهو يُهَرْوِل داخل الإستقبال وعلي وجهه الشاحِب علامات الفَزَع والقَلَق، ينظر في ذهولٍ الي الجميع ويَطلُب مِنَّا المُساعَدة، ثم قال بصوتٍ مُرتَجِف: " حَد يِشوفهُم بسُرعة .. حَد يِلحَقهم"، حاولنا تَهدِئَته في محاولةٍ لفَهْم ما حدث، وذلك بنفس الوقت الذي نقوم فيه بنَقل الُمصابين علي السرير للكشف عليهم وإسعافهم، وفَهِمنا منه أنَّ زوجته وابنته قد تَعرَّضَتا لحادِث سيَّارة أثناء عبورهم جميعاً ومعهم ابنتهما الأخري لطريقٍ سريع بالقُرب مِن المستشفي، حيث أتَتْ سيارة مُسرِعَة لتطِيح بزوجته الي أعلي من شِدَّة الاصطدام والذي أدي الي تَهشُّم زُجاج السيارة الأمامي، بينما كان تأثير الإصطدام علي ابنته أقل حيث ارتطَمَت بجانب السيارة .. كل هذا أمام عينيه وهو لا يُصدِّق ما يراه .. بدأنا بتخصُّصَاتِنا المُختَلِفة فَحص الزوجة وابنتها لتقديم الإسعافات الأوليَّة و مَعرفة حجم الإصابة وطلب الفُحوصات و الإشاعات التي تُساعدنا علي ذلك .. وفي هذا الوقت كان الرجل يتنَقَّل بين زوجته للاطمئنان عليها و هو يسألنا عن حالَتِها دون توقُّف، وبين ابنته المُصابة إصابات طفيفة والتي تَبكِي ويُحاِول تَهدِئَتها، وبين ابنته الأخري التي تَقِف خارج الغُرفة ليُطَمْئِنها علي حالة والدتها وأختها الصغيرة .وبجانب كل ذلك يلتَفّ حوله بعض الناس وأمن المستشفي يسألونه عن السيَّارة المُتسبِّبة في الحادث ورقمها وصاحبها، وهناك من تطوَّع ليَصِف للجميع كيف كان سائق السيارة شابَّاً طائِشاً يبدو أنه (شَارِب حَاجَة) و كيف كان يسير بسرعةٍ جنونية دون أن ينظر أمامه، فقد كان مَشغُولاً بتليفونه المحمول، ذلك وَسَط لَعنات الحاضرين عليه وعلي أمثاله .. ثم قام الزوج بعد أن أشتدَّت عليه الضغوط وحلَّ عليه التَعَب بإبلاغ أهله بما حَدَث له ولأسرته .. وطلب منهم الحضور لمساعدته.
إنتهينا مِن فَحص المُصابَتَين، وبينما كُنت أكتُب الإشاعات المطلوبة لهما، وجَدْت الزوج يسألني مُجدَّدَاً عن حالتها وحالة ابنتهما الصغيرة، وطَمأنْته بشَكلٍ مَبدَئِي أنَّ حالتهما مُستقِرَّة، وأفهمته أنَّ علينا إنتظار نتائِج الإشاعات المطلوبة لمعرفة الوَضع بدِقَّة، خاصةً في حالة الزوجة .. وتحرَّك الجميع بالفعل مع المَرضَي للمُساعدة في نَقلِهِم لعَمَل الإشاعات، ووجَدْت الإستقبال قد خَلَا تماماً الَّا مِن ذلك الرَجُل الأربعيني ذات الوَجْه البَسيط المألوف، وكان يرتدي بدلةً كاملةً أنيقة، ويقف بعيداً بصُحبَة أحد رجال أمن المستشفي وهو يَنظُر إليَّ بنظراتٍ مُترقِّبَة، ثم تقدَّم نحوي بخطواتٍ مُرتَجِفة، وهو يتَصبَّبُ عَرَقاً، وسأَلَنِي وهو يُحاول التظَاهُر بالتماسُك ليُخفِي قَلَقَه الشَديد: " إيه أخبار المَدَام والطِفلة يا دكتور "، فنَظَرْت إليه وأنا أسأله السؤال المُعتاد في مثل هذه المَواقِف: "حضرِتَك تِقرَبلُهُم إيه ؟"، فقال لي وهو ينظر الي الأرض وقد بدأ التَوتُّر يُسيّطِر عليه: " لا يا دكتور أنا مش قريبهم .. أنا اللي كُنت سايق العربيَّة" .. نظَرْت اليه للحظات وأنا لا أعرف ماذا أقول له، هل أَلُومه علي ما فعل بهذه الطفلة وأمّها، أم أُحاول تَهدِئَتُه و طَمئَنَتْه، فلا أحد يعرف ماذا حدث بالتحديد، وواضح مِن هيئته انه ليس ذلك الشاب المُتهوِّر (اللي شارِب حَاجَة) كما وصفه شاهِد العيان .. ثم قُلت له بإقتِضَاب: "إن شاء الله خير"، شَكَرَنِي وعاد في هُدوء الي مَكَانِه البعيد، وقد بدأ بعض أفراد الأمن الحديث معه عن تفاصيل الحادث، الكُل يُهاجِمَه ويَلُومه وهو في مَوقِفٍ ضعيف للغاية، يُدافِع عن نفسه و يُقسِم بالله أنَّهم ظهروا أمامه فجأة ولم يَستَطِع التَوقُّف أو تَفَادِيهم.
عادَت الزوجة وابنتها إلينا بعد انتهائهما مِن عَمَل الإشاعات ومَعهُما باقي الأُسرَة، بالإضافة الي ذلك الشيخ الوقور في عبايته البيضاء، والذي عَرِفْت أنه والد الزوجة والذي كانوا في زيارةٍ له قبل وقوع الحادث .. أَمسَكْت بالإشاعات وبدَأْتُ أطَّلِع عليها و الكُل حَولِي ينتظر في ترَقُّب، ثم قُلت لهم: "إشاعات المُخ والعمود الفقري سليمة والحمد لله"، وهنا سَمِعْت تنهيدات الإرتياح مِن الجميع، والزوج يُعانِقني مِن شِدَّة فرحته، ووَجَدْت هذا الشيخ يتقدَّم نحوي مُتَّكِئاً علي عصاه للإطمئنان عليهما، وفُوجِئْت به يَسألني عن حفيدته أولاً ثمَّ علي ابنته بعد ذلك، ويصف لي كيف تربُطُه بهذه الطفلة عِلاقة قويَّة وخاصَّة، وأخذ يَدعو لنا جميعاً ولهما بأن يَتِم الله شفاءَهما .. أبلَغْت الأهل بأنَّنا مازلنا في إنتظار رأي أطباء جراحة العظام والجراحة العامة، وأنَّه بكل الأحوال ستبقَي الأُمُّ تحت المُلاحظة بالمستشفي لمُدَّة 24 ساعة .. وخَرَجْت مِن الإستقبال مُتوجِّهاً لقِسم الجراحة بالمُستشفي لمُتابَعِة باقي المَرضَي، وأنا أبحَث بعَيني عن ذلك الرجل المُتسبِّب في الحادث، فقد إختَفَي مِن الطوارئ تماماً، ولكنِّي لمَحْته يَقِف عند باب المستشفي تَفادِياً لحدوث أي إحتكاك بينه وبين أهل الُمصابين .. وَجَدْتُّه يَنظُر لي وأنا في طريقي للسُلَّم المؤدي الي قسم الجراحة، ودون تفكير وَجَدْت نَفسِي أتوَجَّه ناحيته و وأبتَسِم في وجهه وأنا أُطَمْئِنه أن نتيجة الإشاعات جاءَت سليمة وأنَّه لا دَاعي للقَلَق، وتأثَّرْت بهذا الرَجُل الوقور وهو يَكاد يَبْكي مُكرِّراً كلمة "الحمدُ لله " دون توَقُّف، فربَّتُّ علي كِتفه و ذَهَبْت إلي عَمَلي.
جَلسْتُ بعد ذلك أُفكِّر فيما حَدَث، وفكَّرت كيف أنِّي قد تَعاطَفْت مَع المجني عليهم و مع الجاني أيضاً، ما هذا التناقُض ؟ أم إنَّه إحساسٌ طبيعيّ؟ ... وتوصَّلْتُ إلي أنَّ هذه فِطرَة الإنسان التي خلقنا الله عليها، فلا نتمنَّي أن نرَي أحداً في كَربٍ أو في مَوقِفٍ صَعب، فإن كان مظلوماً وبحَاجَة للمُساعدة نَمُد له يَدَنا، وإن أخطأ فليأخُذ عِقَابَهُ، سَواء كان في الدُنيا أو قد أجَّلَه الله له في الآخِرة، وذلك دون شَماتَة أو سعادة ونحن نراه ذليلاً أمَامنا .. فكما تَدِينُ تُدان .... ربما تكون حقاً هذه فِطرَتنا .. والتي تغيَّرَت فينا بمُرورِ الأيام واختلاف الظروف.
منقول