فى غرائب اللغة

قبل 9 سنوات

قال أبو علي القالي:
التقعير أن يتكلم بأقصى قعر فمه، يقال: قَعَّر في كلامه تقعيرا، وهو مأخوذ من قولهم: قَعَّرْتُ البئر وأقعرتها، إذا عظمتَ قعرها، وإناء قعران إذا كان عظيم القعر، فكأن المقعِّر الذي يتوسع في الكلام ويتشدق، ويجوز أن يكون من قولهم: قَعَرْتُ النخلة فانقعرتْ، إذا قلعتها من أصلها فلم تُبْقِ منها شيئا، فيكون معنى المقعر من الرجال الذي لا يبقي غاية من الفصاحة والتشدق إلا أتى عليها.

وقال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة:
ونستحب له – يعني للكاتب – أن يدع في كلامه التقعير والتقعيب.

قال أبو علي القالي:
التقعيب أن يصيِّر فمه عند التكلم كالقَعْب، وهو القدح الصغير، وقد يكون الكبير.

قلت:
خلاصة القول في التقعير أو التقعر اصطلاحا أن يحتوي الكلام على ما ينفر السامع لغرابته وكونه حوشيا وحشيا ليس بسلس في الأذن ولا يسرع الذهن إلى فهمه، بل هو حال مروره بالذهن كمن يشرب الشراب {يتجرعه ولا يكاد يسيغه}، ولا خلاف بين فقهاء البلغاء وفصحاء الأدباء أن هذا التقعير منافٍ للبلاغة ناءٍ عن الفصاحة، إذ الفصاحة على التحقيق: معنى لطيف في لفظ رشيق، فمتى كان المعنى سيئا لم يكن الكلام بليغا، وإن لبس ثوبا من محاسن الألفاظ، ومتى كان اللفظ شائنا لم يكن لمعناه وقع على القلوب ولا تأثير على النفوس، وإن كان معناه حسنا،
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن من البيان لسحرا))
وقال العلماء: حسن السؤال نصف العلم،
وقال الحكماء: (( يبلغ المرء بالمقال ما لا يبلغ بالفَعَال))، ولذلك أيضا كانت سقطات اللسان مُهْلِكة دونَها زلة الرِّجْل، وهذا بحث له موضع آخر.

وأصحاب التقعير إن لحنوا كانوا في الغاية من القبح،
كما قال الجاحظ: (( ثم اعلم أن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتقعيب والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم)).

من ملح صفي الدين الحِلِّي:

إنما الحيزبون والدردبيس ............... والطخا والنقاخ والعلطبيس
لغة تنفر المسامع منها ............... حين تروى وتشمئز النفوس
وقبيح أن يذكر النافر الوحْـ ............... ـشي منها ويترك المأنوس
أين قولي: هذا كثيب قديم ............... ومقالي: عقنقل قدموس
خل للأصمعي جوب الفيافي ............... في نشاف تخف فيه الرءوس
إنما هذه القلوب حديد ............... ولذيذ الألفاظ مغناطيس


ومنها:
قول عيسى بن عمر ساعة ضربه يوسف بن عمر بن هبيرة بالسوط: (( والله إن كانت إلا أُثَيَّابًا في أسيفاط قبضها عشاروك)).
الأثياب: تصغير الثياب، والأسيفاط تصغير الأسفاط جمع سَفَط وهو الذي تعبأ فيه الأشياء، والعشار: جامع الزكاة يأخذ العشر.

ومنها:
قوله أيضا – وهو ممن اشتهر بشدة التقعير في كلامه -: أتيت الحسن البصري مجرمزا حتى اقعنبيت بين يديه، فقلت: يا أبا سعيد أرأيت قول الله تعالى {والنخل باسقات لها طلع نضيد}، فقال: هو الطِّبِّيع في كُفُرَّاه، ولعمري إن الآية لأبين من تفسيره.
المجرمز: المسرع، واقعنبى: جلس غير مستقر، والطبيع: الطلع بعينه، والكفرى: غشاء الطلع.

ومنها:
ما روي أن رجلا من المتقعرين مرضت أمه، فأمرته أن يصير إلى المسجد ويسأل الناس الدعاء لها، فكتب في حيطان المسجد: (( صِينَ وأُعين رجل دعا لامرأة مقسئنة عليلة، بُليت بأكل هذا الطرموق الخبيث أن يمن الله عليها بالاطرغشاش والابرغشاش))، فما قرأ أحد الكتاب إلا لعنه وأمه.
صين وأعين: مبني للمفعول أي صانه الله وأعانه، والمقسئنة: العجوز جدا، والطرموق: الطَّفْل، والاطرغشاش والابرغشاش: كلاهما الشفاء والبرء من المرض.

ومنها:

ما حُكِيَ عن أبي علقمة النحوي – وكان نحوا من عيسى بن عمر في التقعر – وكان يعتريه هيجان في بعض الأوقات، فهاج به في بعض الطريق، فسقط إلى الأرض مغشيا عليه، فاجتمع الناس حوله، وظنوه مجنونا، فجعلوا يقرءون في أذنه، ويعضون على إبهامه، فلما ذهب ما كان به، فتح عينيه فنظر إلى الناس يزدحمون عليه، فقال: (( ما لكم تتكأكئون عليَّ كأنما تتكأكئون على ذي جِنَّة، افرنقعوا عني))، فقال رجل منهم: إنه شيطان يتكلم بالهندية.
تتكأكئون: أي تجتمعون وتنحنون، وذو الجنة: المجنون، وافرنقع عن الشيء: زال.


وهاج بأبي علقمة الدم، فأتوه بحجام، فقال للحجام: (( اشدد قصب الملازم، وأرهف ظبات المشارط، وأسرع الوضع، وعجل النزع، وليكن شرطك وخزا، ومصك نهزا، ولا تكرهن أبيا، ولا تردن أتيا))، فوضع الحجام محاجمه في جونته ثم مضى.

ومنها ما روي أن رجلا سأل خادمه: (( أصقعت العتاريس؟)) فقال له الخادم: ذق ليطم، فقال له: وما ذق ليطم؟ فقال: وأنت ما صقعت العتاريس؟ قال: أعني أصاحت الديكة؟ قال: وأنا أعني لم تصح!!

ومنها ما روي عن أم الهيثم – وكانت أعرابية فصيحة كان يسألها علماء اللغة – أنها مرضت فذهبوا يعودونها، فقالوا: يا أم الهيثم كيف تجدينك؟ فقالت: (( كنت وحمى بالدكة، فحضرت مأدبة، فأكلت جبجبة، من صفيف هلعة، فاعترتني زلخة))، فقالوا: يا أم الهيثم أي شيء تقولين؟ قالت: أو للناس كلامان؟ والله ما كلمتكم إلا بالعربي الفصيح.

ومنها ما روي عن أبي علقمة أنه ذهب إلى الطبيب، فقال له: (( أيها الطبيب نفع الله بك، إني طسأت طسأة فأوجعت مني ما بين الداية إلى منتهى العنق، فما زال يربو وينمو حتى أنبت الحراشيف، فهل من دواء؟))، فقال: (( خذ شبقا وشبرقا، ثم زهزقه وزهزقه واخلطه بماء روث واشربه))، قال: أنا لم أفهم شيئا، قال: لعن الله أقلنا إفهاما لصاحبه!!.

ومنها ما روي عن أبي علقمة أنه مر يوما على عبد حبشي وصقلبي، فإذا الحبشي قد ضرب بالصقلبي الأرض، فأدخل ركبتيه في بطنه وأصابه في عينه، وعض أذنيه وضربه بعصا، فشجه وأسال دمه، فقال الصقلبي لأبي علقمة: اشهد لي، فمضوا إلى الأمير، فقال الأمير: بم تشهد؟ فقال: (( أصلح الله الأمير، بينما أنا أسير بكودني، إذ مررت بهذين العبدين، فرأيت الأسحم قد مال على الأبقع، فحطأه على فدفد، ثم ضغطه برخفتيه في أحشائه، حتى ظننت أنه تدعج جوفه، وجعل يلج بشناتره في جحمتيه يكاد يفقؤهما، وقبض على صنارتيه بميرمه، وكاد يحذهما، ثم علاه بمنسأة كانت معه ففجغه بها وهذا أثر الجريان عليه بينا)).
فقال الأمير: والله ما فهمت مما قلت شيئا.
فقال أبو علقمة: قد فهمناك إن فهمت، وأعلمناك إن علمت، وأديتُ إليك ما علمتُ، وما أقدر أن أتكلم بالفارسية، فجهد الأمير في كشف الكلام حتى ضاق صدره، ثم كشف الأمير رأسه، وقال للصقلبي: شجني خمسا وأعفني من شهادة هذا.

فى غرائب اللغة
عندك أي منتج؟
عفواً.. لايوجد ردود.
أضف رداً جديداً..