بمجرد الإعلان عن تعيينه محافظا للبنك المركزى فى 21 أكتوبر الماضى، لم ينتظر طارق عامر موعد تسلمه الرسمى فى 27 نوفمبر، وقام بلقاء رئيسي البنك الأهلى وبنك مصر، ليتم الإعلان عن رفع فائدة شهادات الادخار بالبنوك العامة الثلاثة من 10 % إلى 12,5 %.
وبرر عامر ذلك بالسعى لامتصاص السيولة من السوق لخفض التضخم، ودفع حائزي الدولار إلى التخلي عنه، وتحويله إلى جنيه مصري للاستفادة بفارق سعر الفائدة، مثلما حدث عام 1991, وهو أمر لم يحدث حيث استمر التضخم مرتفعا، وظل حائزو الدولار متمسكين به.
وهكذا تصرف عامر بشكل شخصي قبل إعلان تشكيل المجلس التنسيقي فى 26 نوفمبر، وعقده اجتماعه الأول فى 17 ديسمبر، ثم اتجه عامر لرفع سعر الفائدة بنسبة نصف بالمائة فى ديسمبر.
وخلال ديسمبر أعلن شروطًا جديدة للاستيراد، تقصر قبول مستندات التحصيل لعمليات الاستيراد على الواردة من البنوك الخارجية وليس من العملاء، ورفع نسبة التأمين النقدى لفتح تمويل الاستيراد السلعي إلى 100 % بدلا من 50 %، وعمم ذلك حتى على إصدار خطابات ضمان بخصوص عمليات الاستيراد.
وبعد ذلك صدرت خمس تعديلات للضوابط الاستيرادية التي أعلن عامر أنها تستهدف تقليل الواردات، وواكب ذلك قرارات لوزير التجارة تحتم على الشركات الموردة الحصول على شهادة من هيئة الرقابة على الصادرات، وكذلك قرارات للجمارك بأسعار استرشادية أعلى في قيمتها لتقليل الواردات، وكذلك رفع الرسوم الجمركية على نحو 600 سلعة.
زيادة الواردات رغم القيود
ورغم أن الربع الأول من العام الحالى، قد شهد خفضا حادا لقيمة الجنيه أمام الدولار فى 14 مارس بنحو 112 قرشا، برره المحافظ بأنه سيزيد قيمة الصادرات والسياحة، فقد أشارت بيانات ذلك الربع الأول إلى تراجع قيمة الصادرات السلعية بنسبة 10 %، بالمقارنة بنفس الربع من عام 2015، والأخطر؛ نمو قيمة الواردات رغم كل القيود بنسبة 7 % بالمقارنة بالربع المقابل.
وكان المحافظ قد استمر فى رفع سعر الفائدة على الودائع سواء بالجنيه أو بالعملات الأجنبية، حيث تم الإعلان عن شهادات دولارية تحمل اسم “بلادي” للمصريين بالخارج، بالتعاون مع وزارة الهجرة بفائدة وصلت إلى 5,5 % لشهادات الخمس سنوات، وتلاها إصدار شهادة “بلادي” باليورو للمصريين بالخارج.
ولم تحقق كلا الشهادتين سواء بالدولار أو باليورو الحصيلة المناسبة رغم جولات مسؤولي البنوك بدول الخليج, ووزيرة الهجرة بعدة بلدان أجنبية للترويج لها، ولهذا اتجه المحافظ إلى رفع فائدة الشهادات الدولارية للبنوك العامة الثلاثة: الأهلي ومصر والقاهرة، والتى وصلت فائدتها إلى 5,75 % للشهادات ذات السبع سنوات، لكنها هي الأخرى لم تحقق الحصيلة المنتظرة.. فاتجه المحافظ إلى زيادة الفائدة إلى 15 % لشهادة الجنيه، بشرط التنازل عن العملات الأجنبية وتحويلها إلى جنيه، لكنها أيضا لم تحقق الحصيلة المرجوة خلال فترة الشهرين اللذين قيل أنه سيغلق باب الاكتتاب بها بعدهما، ومع ذلك استمرت البنوك العامة الثلاثة فى تلقى الاكتتابات بها.
عطاءات استثنائية ترتد للمركزي
ونظرا لاقتصار زيادة الفائدة على شهادات الادخار بالبنوك العامة وعدد قليل من البنوك الخاصة شبه الحكومية، فقد اتجه المحافظ لزيادة الفائدة بالجهاز المصرفي عموما، في مارس بنسبة 1,5 %، ومرة أخرى فى يونيو بزيادة 1 %، لتزيد الفائدة خلال ست شهور من تواجده ثلاث مرات بنسبة 3 %، وهو أمر أضر كثيرا بالشركات المقترضة وزاد تكلفة فائدة الدين الحكومي مما زاد في عجز الموازنة.
ولم يكتف المحافظ برفع الفائدة وقيود الاستيراد وخفض سعر صرف الجنيه، بل اتجه إلى “بطاقات الائتمان”، فتم التشدد معها سواء بمنع تعاملها بالدولار داخل مصر للبطاقات المصدرة من بنوك محلية، وخفض حدود السحب الشهري، وإلغاء فترات السماح، وزيادة عمولات تدبير الدولار والتدقيق فى نوعية العملاء الممنوحة لهم.
كما استخدم العطاءات الاستثنائية كوسيلة لطمأنة السوق، حتى أنه ضخ 2,4 مليار دولار خلال عشرة أيام من شهر مارس، كما ضغط على قيادات بنوك محلية لإيداع عملات أجنبية بالمركزى للحفاظ على رقم الاحتياطي من العملات الأجنبية لتظهر به زيادات طفيفة.
لكن قيام البنك المركزي بإجبار البنوك المتلقية للعطاءات الاستثنائية على ردها فى صورة وديعة بالمركزي بفائدة 1,2 %، واستمرار تحول صافي الأصول الأجنبية بالجهاز المصرفي إلى الجانب السلبي منذ شهر نوفمبر وخلال الشهور التالية، وسحب البنوك أرصدتها الخارجية.. والكشف عن الضغوط على بعض البنوك لوضع ودائع دولارية بالمركزي، وتهديد بعض من لم يستجيبوا بإقصائهم عن مواقعهم بمبرر مرور 9 سنوات على توليهم مناصبهم، كل تلك العوامل قللت الثقة فى تصريحات المحافظ، حتى لم يعد يعرف كم من الاحتياطي المعلن يملكه المركزي، مما زاد من الفجوة بين السعر الرسمي والسعر بالسوق الموازية، لتتخطى الجنيهين بعد أن كانت جنيها واحدا.
وعد بالحفاظ على القوة الشرائية للجنيه
والأخطر من ذلك هو انخفاض الثقة لدى الكثيرين فى المحافظ وتصريحاته، من خلال الإطلالات الثلاث التى أطل من خلالها على الجمهور، حين تعهد فى حديث تلفزيوني فى 21 فبراير الماضي بالحفاظ على القوة الشرائية للجنيه المصري, وقوله إن القوة الشرائية للجنيه المصري قضية أمن قومي، لا يمكن أن يتخلى عنها المركزى للحفاظ على القيمة الحقيقية لمدخرات المواطنين حتى لا تتآكل، وبعدها بأقل من شهر خفض قيمة الجنيه 112 قرشا دفعة واحدة!
كذلك قوله إن وزارة المالية أخطات حين جعلت سعر الدولار 8,25 جنيه بالعام المالي الجديد، والذى كان سيبدأ أول يوليو، وأنه لا نية لتعويم الجنيه فى ظل الاحتياطى الحالي من العملات الأجنبية، وإذا به بعد ثلاثة أسابيع من لومه لوزارة المالية يصل بالسعر الرسمى بالبنوك إلى 8,88 جنيه!
أيضا قوله بنفس حوار فبراير إن مصر ليست دولة عالية المخاطر، بينما تصنيف مصر المتدنى لدى كل وكالات التصنيف الدولية يؤكد مخاطرها العالية وارتفاع نسبة الهامش على تأمين قروضها، بل هو نفسه ذكر أن نسبة الدين العام أصبحت توازي الناتج المحلي!
وكذلك تباهيه بالحوار بقلة الزيادة في الدين الخارجي، بينما حقق الدين الخارجي فى مارس الماضي وفى عهده رقما غير مسبوق بلغ 53,4 مليار دولار وبزيادة قاربت على الست مليارات دولار خلال ثلاثة أشهر فقط، وإعلانه مؤخرا طرح سندات بحوالي 3 مليار دولار فى سبتمبر، وترحيبه بقرض الصندوق الدولى، بخلاف قرضي البنك الدولى والأفريقى مما سيزيد الدين الخارجى أكثر!
وعود باستثمارات أجنبية لم تتحقق
وجاءت الإطلالة الثانية فى حوار تلفزيونى أيضا فى 27 مارس وبعد خفض الجنيه ليقول إنه لا توجد أزمة دولار بمصر، فى حين يعلم الكافة تراجع إيرادات السياحة والصادرات والتحويلات والقناة والمعونات.. واستمرار الفارق الكبير فى سعر صرف الدولار بالسوق الموازي, والصعوبات التى تجدها الشركات لتدبير احتياجاتها الدولارية، وتوقف العمل ببعض المصانع بسبب ذلك واضطرارها للتعامل مع السوق السوداء.
أيضا توقعه بمجيء استثمارات صينية بحوالى 30 مليار دولار بعد زيارته الصين، وتوقعه مجيء 5 مليار دولار على الأقل من الصناديق الأجنبية للاستثمار فى أذون الخزانة المصرية، بعد خفض قيمة الجنيه وإيجاد نطام تحوط يكفل لها الخروج بنفس سعر الصرف يوم دخولها.
لكن الاستثمارات الصينية لم تأت، وكذلك لم تُقبل الصناديق الأجنبية على الاستثمار بأذون الخزانة المصرية إلا بأرقام هزيلة، كذلك قوله بأنه لا يوجد مبرر لدى المواطن للتعامل على العملات الأجنبية خارج الجهاز المصرفي، رغم الفارق الكبير بين السوقين الرسمي والموازي.
ومن هنا كانت الإطلالة الثالثة للمحافظ من خلال تصريحات صحفية فى الثالث من الشهر الحالي، أعلن فيها أن الزيادة الشهرية للودائع الدولارية أصحبت 700 مليون دولار شهريا، وبعد حديثه بأقل من أسبوعين كشفت بيانات البنك المركزى أن إجمالي الزيادة بالودائع الدولارية بالبنوك بشهر أبريل، بلغت 115 مليون دولار فقط متضمنة فوائد أرصدة الودائع القديمة.
كما أعلن أن المركزي يستهدف تضخمًا أقل من 10 %، فكيف يتم ذلك مع استمراره فى رفع الفائدة التى ترفع تكلفة التمويل على الشركات الإنتاجية؟ كذلك أعلن تخليه عن الحفاظ على سعر الصرف، رغم أن تراجع الجنيه مرة أخرى خلال أقل من أربعة أشهر أمام الدولار معناه المزيد من ارتفاع الأسعار للسلع المستوردة، وتآكل القيمة الشرائية لمدخرات المصريين، والتى تعد العماد الرئيسى للجهاز المصرفى، والتى تعتمد عليها الحكومة لتمويل عجز موازنتها وسداد فوائد وأقساط ديونها.
ممدوح الولى