شبهة تدبر القرآن الكريم

قبل 9 سنوات

لا ريب أن التدبر وإعمال العقل في فهم القرآن الكريم من الأهمية بما كان فإن العمل بالشيء لا يتأتى دون فهمه واستيعابه، فكيف بالقرآن الكريم الذي هو دستور الإسلام وقوام القلوب و غذاء الأرواح، لكن هناك شبهة يوردها البعض جهلا منه أو عن علم وقصد، مفادها أن التدبر لا يستطيعه أي أحد، و إنما هو من اختصاص العلماء، و أنه لا يمكن لمن لم يكن من أهل العلم و الاجتهاد أن يتدبر كلام الله جل في علاه و" أن تدبر هذا القرآن العظيم، وتفهمه والعمل به،لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة"([1])كما هو قول بعض متأخري الأصوليين .
ولا شك أن هذا القول في غاية البطلان، و أنه مكيدة من مكايد الشيطان صرفت كثيرا من الناس عن تدبر القرآن بحجة أن فهمه صعب المنال:
- يقول ابن هبيرة([2]) تعالى: " من مكايد الشيطان: تنفيره عباد اللّه من تدبر القرآن لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر، فيقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في القرآن تورعًا."([3]) .
- يقول الإمام الشاطبي تعالى:" فمن حيث كان القرآن معجزًا أفحم الفصحاء، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله؛ فذلك لا يخرجه عن كونه عربيًّا جاريًا على أساليب كلام العرب، ميسرًا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى.. إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه؛ لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق، وذلك مرفوع عن الأمة."([4]).
- يقول الإمام ابن القيم تعالى:"من قال : إن له تأويلا لا نفهمه ولا نعلمه وإنما نتلوه متعبدين بألفاظه ففي قلبه منه حرج."([5]).
- ويقول الإمام الصنعاني تعالى: " فإن من قرع سمعه قوله تعالى : وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ-المزمل:20- يفهم معناه دون أن يعرف أن ( ما ) كلمة شرط ، و ( تقدموا ) مجزوم بها لأنه شرطها ، و ( تجدوه ) مجزوم بها لأنه جزاؤها ، ومثلها كثير ... فياليت شعري ! ما الذي خص الكتاب والسنة بالمنع عن معرفة معانيها وفهم تراكيبها ومبانيها.. حتى جعلت كالمقصورات في الخيام .. ولم يبق لنا إلاترديد ألفاظها وحروفها ... "([6]) اهــــ.
و للأسف فإن هذه الشبهة حالت بين الكثيرين و الدبر، فاعتقدوا أنه ليس لهم أن يتدبروا كلام الله جل في علاه أو أن يفهموه، والحق أن القرآن الكريم ميسر في قراءته وحفظه و فهمه و تدبره و العمل به، قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر-القمر:17-" أي: ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، لأنه أحسن الكلام لفظا، وأصدقه معنى، وأبينه تفسيرا، فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير، وسهله عليه... ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا، أسهل العلوم، وأجلها على الإطلاق، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه."-السعدي:825-، ويقول : فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا"-مريم:97-يسر هذا القرآن الكريم بلسان الرسول محمد ، يسر ألفاظه ومعانيه، ليحصل المقصود منه والانتفاع به،-السعدي501-، وقال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ-الدخان:58-.
فالقول بوعورة أو صعوبة التدبر و أنه لا يستطيعه إلا العلماء"خطأ لمفهوم تدبر القرآن وانصراف عن الغاية التي من أجلها أنزل ، فالقرآن أولا كتاب تربية وتعليم ، وكتاب هداية وبصائر لكل الناس ، كتاب هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين ، كتاب قد يسر الله تعالى فهمه وتدبره كما قال تعالى : وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ -القمر:17-... إن الصحيح والحق في هذه المسألة أن القرآن معظمه واضح وبين وظاهر لكل الناس ، كما قال ابن عباس-- : "التفسير على أربعة أوجه :وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر احد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله"([7]) "، ومعظم القرآن من القسمين الأولين."([8]) .
وقول الحبر "تفسير لا يعذر احد بجهالته" أي:"ما لا يعذر واحد بجهله وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا لا سواه يعلم أنه مراد الله تعالى، فهذا القسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وأنه لا شريك له في إلهيته وإن لم يعلم أن "لا" موضوعة في اللغة للنفي و"إلا" للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ونحوها من الأوامر طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود وإن لم يعلم أن صيغة أفعل مقتضاها الترجيح وجوبا أو ندبا فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة."([9])..
و قد أطال العلامة الشنقيطي تعالى النفس في الرد على هذه الشبهة في تفسيره الماتع "أضواء البيان"وذلك عند تفسيره لقوله تعالى:" أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا-محمد:24-.
وأكتفي بنقل أول كلامه في هذه المسألة-ومن أراد الاستزادة فعليه بالأضواء-قال تعالى:"اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين: إن تدبر هذا القرآن العظيم، وتفهمه والعمل به، لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة، وأن كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة عندهم التي لم يستند اشتراط كثير منها إلى دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس جلي، ولا أثر عن الصحابة، قول لا مستند له من دليل شرعي أصلا.
بل الحق الذي لا شك فيه، أن كل من له قدرة من المسلمين، على التعلم والتفهم، وإدراك معاني الكتاب والسنة، يجب عليه تعلمهما، والعمل بما علم منهما.
أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعا.
وأما ما علمه منهما علما صحيحا ناشئا عن تعلم صحيح، فله أن يعمل به، ولو آية واحدة أو حديثا واحدا.
ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من لم يتدبر كتاب الله عام لجميع الناس([10]).
ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار([11])، ليس أحد منهم مستكملا لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول، بل ليس عندهم شيء منها أصلا، فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به، والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالإصلاح الأصولي لما وبخ الله الكفار وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه، ولما أقام عليهم الحجة به حتى يحصلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين... ومن المعلوم أيضا، أن عمومات الآيات والأحاديث، الدالة على حث جميع الناس، على العمل بكتاب الله، وسنة رسوله، أكثر من أن تحصى، كقوله : "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي" وقوله : "عليكم بسنتي" الحديث, ونحو ذلك مما لا يحصى.
فتخصيص جميع تلك النصوص، بخصوص المجتهدين وتحريم الانتفاع بهدي الكتاب والسنة على غيرهم، تحريما باتا يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله ، ولا يصح تخصيص تلك النصوص بآراء جماعات من المتأخرين المقرين على أنفسهم بأنهم من المقلدين."([12]) .
و ختم تعالى الكلام عن مسألة الاجتهاد في ثنايا تفسيره للآية المذكورة بقوله:
" فنصوص القرآن والسنة كلها دالة على لزوم تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل به، فتخصيص تلك النصوص كلها، بدعوى أن تدبر الوحي وتفهمه والعمل به: لا يصح شيء منه إلا لخصوص المجتهدين، الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين، يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه، ولا دليل على ذلك البتة، بل أدلة الكتاب والسنة، دالة على وجوب تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل بكل ما علم منه، علما صحيحا قليلا كان أو كثيرا."([13]).



([1]) أضواء البيان:50/27.

([2]) ابن هبيرة الوزير الكامل، الامام العالم العادل أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الشيباني الدوري العراقي الحنبلي، صاحب التصانيف، دخل بغداد في صباه، وطلب العلم، وجالس الفقهاء وسمع الحديث، وتلا بالسبع، وشارك في علوم الاسلام، ومهر في اللغة، وكان يعرف المذهب والعربية والعروض، سلفيا أثريا، ثم إنه أمضه الفقر، فتعرض للكتابة، وتقدم، وترقى وتولى الوزارة، وكان دينا خيرا متعبدا عاقلا وقورا متواضعا، جزل الرأي، بارا بالعلماء، مكبا مع أعباء الوزارة على العلم وتدوينه، كبير الشأن، حسنة الزمان.-سير أعلام النبلاء:20/426-427.

([3]) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب-1/111-.

([4] ) الموافقات:4/144.

([5]) التبيان في أقسام القرآن:143.

([6]) مفاتح تدبر القرآن:11.

([7]) أخرجه الإمام الطبري بسنده في تفسيره الموسوم جامع البيان في تأويل آي القرآن:1/75.

([8]) مفاتيح تدبر القرآن:10.

([9]) البرهان في علوم القرآن:2/166.

([10]) في أصل الكتاب "ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من يتدبر كتاب الله عام لجميع الناس"، والصواب ما أثبتته، فلعل هناك سقط.

([11]) يقول شيخ الإسلام تعالى:" " فَإِذَا كَانَ قَدْ حَضَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى تَدَبُّرِهِ : عُلِمَ أَنَّ مَعَانِيَهُ مِمَّا يُمْكِنُ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فَهْمُهَا وَمَعْرِفَتُهَا فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُمْكِنًا لِلْمُؤْمِنِينَ ؛ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعَانِيَهُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بَيِّنَةً لَهُمْ ."-القاعدة المراكشة1/8-.

([12]) الأضواء:7/279-281.

([13]) الأضواء:7/317.

شبهة تدبر القرآن الكريم
عندك أي منتج؟
عفواً.. لايوجد ردود.
أضف رداً جديداً..