قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } من سورة المائدة . الوصيَّة: عهدٌ خاصٌّ بالتصرف بالمال، أو التبرُّع به بعد الموت . وهي مشروعةٌ بالكتاب؛ لقول الله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ﴾ [البقرة: 180]. ومشروعةٌ بالسنَّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما حقُّ امرئٍ مسلم له شيءٌ يريد أن يوصي فيه، يبيتُ ليلتين إلا ووصيَّته مكتوبةٌ عنده)) . والوصية مشروعةٌ بإجماع المسلمين في جميع الأعصار والأمصار . والوصية قسمان : الأول: مستحبٌّ، وهو ما كان في التطوُّعات والقربات. والثاني: واجب، وهو في الحقوق الواجبة التي ليس بها بيِّنة تُثبِتها بعد وفاته؛ لأنَّ "ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب"، والكتابة تكفي لإثبات الوصية والعمل بها، ولو بدون شهود، والخطُّ إذا عُرف بينةٌ ووثيقة قوية[5]. قال الشيخ عبدالرحمن السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية وما تلاها: يُخبر تعالى خبرًا متضمِّنًا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية إذا حضَر الإنسانَ مقدماتُ الموت وعلائمُه، فينبغي له أن يكتب وصيةً يُشهِد عليها اثنين ذوَي عدل ممن يُعتبَر بشهادتهما، ﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾؛ أي: من غير أهل دينكم من اليهود والنصارى أو غيرهم؛ وذلك عند الحاجة والضرورة، وعدمِ غيرهما من المسلمين، ﴿ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾؛ أي: سافَرتم فيها، ﴿ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ﴾؛ أي: فأشهِدوهما، ولم يأمر بإشهادهما إلا لأنَّ قولَهما في تلك الحال مقبولٌ، ويؤكَّد عليهما بأن يُحبَسا ﴿ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ ﴾ التي يعظِّمونها، ﴿ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ ﴾ أنَّهما صَدَقا وما غيَّرا ولا بدَّلا، هذا ﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ في شهادتهما، فإن صدَّقتموهما فلا حاجة إلى القسَم بذلك. ويقولان: ﴿ لَا نَشْتَرِي بِهِ ﴾؛ أي: بأيماننا ﴿ ثَمَنًا ﴾ بأن نَكذِب فيها لأجل عرَضٍ من الدنيا ﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾، فلا نُراعيه لأجل قرابته منها، ﴿ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ﴾، بل نؤدِّيها على ما سمعناها؛ ﴿ إِنَّا إِذًا ﴾؛ أي: إن كتَمناها ﴿ لَمِنَ الْآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا ﴾؛ أي: الشاهدين ﴿ اسْتَحَقَّا إِثْمًا ﴾ بأن وُجد من القرائن ما يدلُّ على كذبهما وأنَّهما خانا، ﴿ فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ ﴾؛ فليَقُم رجلان من أولياء الميت، وليَكونا من أقرب الأولياء إليه ﴿ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ﴾؛ أي: أنَّهما كذَبا وغيَّرا وخانا، ﴿ وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: إن ظلَمنا واعتدَينا وشهدنا بغير الحق. قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها وردِّها على أولياء الميت حين تَظهر من الشاهدين الخيانةُ: ﴿ ذَلِكَ أَدْنَى ﴾؛ أي: أقرب ﴿ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ﴾ حين تؤكَّد عليهما تلك التأكيدات، ﴿ أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾؛ أي: ألا تُقبَل أيمانهم ثم تُردَّ على أولياء الميت، ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 108]؛ أي: الذين وصفُهم الفسق، فلا يريدون الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم. وحاصل هذا أنَّ الميت إذا حضَره الموتُ في سفره ونحوِه مما هو مظِنَّة قلة الشهود المعتبَرين أنه يَنبغي أن يوصي شاهدين مسلمَين عدلين، فإن لم يجد إلا شاهدَين كافرين جاز أن يوصي إليهما، ولكن لأجلِ كفرهما فإنَّ الأولياء إنِ ارتابوا بهما فإنَّهما يحلِّفونهما بعد الصلاة أنَّهما ما خانا ولا كذَبا، ولا غيَّرا ولا بدَّلا، فيبرأان بذلك من حقٍّ يتوجَّه إليهما، فإن لم يصدِّقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين فإن شاء أولياءُ الميت فليَقُم منهما اثنان فيُقسِمان بالله: لشهادتُنا أحقُّ من شهادة الشاهدين الأوَّلين وأنهما خانا وكذَبا، فيستحقون منهما ما يدَّعون . ____ منقول من موقع .