الهارب من المنصب!

قبل 10 سنوات

دخل على الخليفة أبي جعفر المنصور, العالم الجليل سفيان الثوري، و لما أخذ مكانه في مجلسه قريباً منه، سأله المنصور أن يرفع إليه حاجته.

فأجابه: اتق الله فقد ملأت الأرض ظلما وجورا.

فطأطأ المنصور رأسه ثم أعاد السؤال عليه, فأجابه: إنما نزلتَ هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار, وأبناؤهم يموتون جوعا, فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم. فطأطأ المنصور شاكراً ثم كرّر السؤال, ولكن سفيان تركه وانصرف.

وتأكد لأبي جعفر المنصور أن ما من عالم يوثق به غير سفيان الثوري لتولي القضاء، فدعاه ليوليه القضاء في إحدى ولاياته، فلما مثل سفيان بين يديه، قال له المنصور: إنا نريد أن نوليك القضاء في بلدة كذا، فأبى سفيان، وأبو جعفر يكرر عليه ويأبى سفيان الثوري.

فقال له المنصور: إذن نقتلك، قال سفيان: افعل ما شئت.

فصاح المنصور: يا غلام النطع والسيف، فاقبلوا بالنطع ( وهو جلد يوضع تحت الذي يٌقتل حتى لا تتسخ الأرض بدمه)، ثم أقبلوا بالسيف، فلما رأى سفيان السيف، علم أن الأمر جدي، فقال سفيان: أيها الخليفة أنظرني إلى غدٍ آتيك بزي القضاة.

فلما أظلم عليه الليل، ركب دابته وخرج من الكوفة هاربا.

فلما أصبح أبو جعفر انتظر سفيان الثوري أن يقدم إليه، فلم يقدم عليه حتى وقت الضحى، فأمر رجاله أن يلتمسوه، فرجعوا إليه يقولون له إن سفيان الثوري قد خالفك وهرب في ظلمة الليل.

فغضب أبو جعفر، وأرسل إلى جميع الولاة بأنه من يأتي بسفيان الثوري حيا أو ميتا له كذا وكذا.

هرب سفيان الثوري وذهب إلى اليمن، وفي طريقه احتاج إلى المال، فأجر نفسه عند صاحب بستان على طريق اليمن، فأخذ يشتغل فيه أياماً، وبعد عدة أيام جاء صاحب البستان، فسأله: من أين أنت يا غلام؟؟؟ ( وكان لا يعرف أنه سفيان الثوري العابد الزاهد، عالم المسلمين)، فأجابه سفيان: أنا من الكوفة، فسأله صاحب البستان: أرطب الكوفة أطيب أم الرطب الذي عندنا؟؟

فأجابه سفيان: أنا ما ذقت الرطب الذي عندكم!!!

قال صاحب البستان: سبحان الله!! الناس جمعيهم صغيرهم وكبيرهم بل حتى الحمير والكلاب اليوم تأكل الرطب من كثرته، وأنت ما أكلت الرطب ؟! لمَ لم تأكل من المزرعة الرطب وأنت تعمل فيها؟

قال سفيان: لأنك لم تأذن لي بذلك فلا أريد أن أدخل في جوفي شيئاً من الحرام.

فعجب صاحب البستان من ورعه، وظن أنه يتصنع الورع، فقال لسفيان: أتتصنع الورع، والله لو كنت سفيان الثوري!!! (وكان لا يعرف أنه سفيان الثوري) فسكت سفيان، فخرج صاحب البستان إلى صديق له، فقال له: إن لي غلام يعمل في البستان ومن شأنه كذا وكذا، وأنه يتصنع الورع والله لو أنه سفيان الثوري.

سأله صاحبه: وما صفته؟؟ قال : من صفته كذا وكذا.

قال صاحبه: هذه والله هي صفة سفيان، فتعال نقبض عليه ونحوز على جائزة الخليفة.

فلما أقبلوا على البستان، فإذا سفيان قد أخذ متاعه وفر إلى اليمن. وقد اشتغل عند أناس ما لبث حتى اتهموه بالسرقة. فحملوه إلى والي اليمن، فلما دخل على الوالي، ونظر إليه، رأى رجلاً وقوراً.

فسأله: هل سرقت؟؟ قال سفيان: لا والله ما سرقت.

قال الوالي: هم يتهمونك أنك سرقت، رد سفيان: تهمة يتهموني بها فليلتمسوا متاعهم أين يكون؟

فأمرهم والي اليمن بالخروج من عنده، حتى يحقق مع سفيان الثوري لوحده ويسأله.

فسأله: ما اسمك؟

قال سفيان: أنا اسمي عبد لله.

قال الوالي: أقسمت عليك أن تقول اسمك فكلنا عبيدٍ لله.

قال: أنا اسمي سفيان.

قال: سفيان ابن من؟

رد سفيان: اسمي سفيان بن عبد لله.

قال الوالي: أقسمت عليك أن تخبرني باسمك واسم أبيك وان تنتسب.

قال: أنا اسمي سفيان بن سعيد الثوري.

فأنتفض الوالي وقال: أنت سفيان الثوري!!! ، قال: نعم، قال: أنت بغية أمير المؤمنين، رد سفيان: نعم، قال: أنت الذي فررت من بين يدي أبي جعفر المنصور، قال: نعم، قال: أنت الذي أرادك على القضاء فأبيت، قال: نعم، قال: أنت الذي جعل فيك الجائزة، قال: نعم.

عندها خفض الوالي رأسه قليلاً ثم رفعه، ثم قال: يا أبا عبد الله أقم كيف شئت وارحل كيف شئت، فو الله لو كنت مختبئأ تحت قدمي ما رفعتها عنك.
فجاء رجل فقال لسفيان: لماذا تشتد هاربًا من الخليفة ؟ و هو يقول كذا ، وكذا أي اقض في الناس بالكتاب والسنة ,فقال له: (يا ناعس ، _أي يا مغفل_ أنا لا أخشى اهانتهم ولكن أخشى معروفهم فلا أرى منكرهم منكرًا )


عندها خرج سفيان ورحل إلى مكة، وسمع أبو جعفر أن سفيان في مكة، وكان حينها وقت الحج، فأرسل أبو جعفر الخشابين وقال لهم :انصبوا الخشب واقبضوا عليه، وعلقوه على باب الحرم حتى آتي أنا وأقتله بنفسي وأُذهب ما في قلبي من غيظ عليه.

دخل الخشابون الحرم، وبدأوا يصيحون: من لنا بسفيان الثوري؟ فلما علم بهم سفيان، فإذا هو بين العلماء أحاطوا به يسألونه وينهلون من علمه، فلما سمع العلماء بالخشابين ينادون به، قالوا لسفيان: يا أبا عبد الله لا تفضحنا فنُقتل معك.

عندها قام سفيان وتقدم حتى وصل إلى الكعبة، ثم رفع يديه وقال: اللهم إني أقسمت عليك أن لا يدخلها أبو جعفر، اللهم إني أقسمت عليك أن لا يدخلها أبو جعفر (أي أن لا يدخل أبو جعفر مكة)، وأخذ يكرر دعاءه. فإذا بهذه الدعوات تقرع أبواب السماوات، فينزل ملك الموت فيقبض روح أبو جعفر المنصور وهو على حدود مكة، ويدخل أبو جعفر مكة ميتاً.

لهذه القصة دلالات، لعل من أهمها: الخشية من الله سبحانه وتعالى، والخوف من الوقوع في الخطأ والظلم أو الإكراه في التحابي لإرضاء السلطان، والوقوع في معصية الرحمن والتعرض لعقابه يوم الحساب.

في زماننا هذا لا يحتاج الحاكم إلى أن يعرض القضاء على أحد لأن على بابه العشرات من العلماء المتملقين الساعين لهذا المنصب طمعاً في الدنيا وحلاوتها وليس لإقامة ميزان العدل بين الناس.

الهارب من المنصب!
عندك أي منتج؟
الكل: 5

بوركت اخي على الموضوع
(من يعذرني من أبي حنيفة حيا او ميتا)
كان الامام أبو حنيفة رضي الله عنه غير راض على سياسة ابي جعفر المنصور بشكل عام, وخصوصا قسوته وشدته مع خصومه, وخصوم ابائه العباسيين, وكانت المخاصمة شديدة والقسوة عنيفة مع العلويين , ومن يظهر التودد اليهم او الترحم عليهم.
والامام ابو حنيفة كغيره من أئمة المسلمين وأجلاء العلماء , يحبون العلويين ولهم مكانة طيبة
ثم ان الامام رحمه الله تعالى جريئ في فتاواه و صريح في اجوبته,شديد في محاسبته لابي جعفر , كثير النقد لاحكام قضاته,وتصرفات ولاته, تمثلت به رجولة العالم وشجاعة المؤمن , وصلابة الفقيه المتمسك باحكام الشرع,لايعرف نفاقا ولا يسلك طريقا منحرفا في دعوته , ولا يهاب سلطانا ولايخشى قوة حاكم في قولة الحق والمنصور ابو جعفر عرف هوى الامام وأدرك نزعته السياسية والروحية , وتلك نزعة لم تنل رضاه , وهوى يغضبه وسلوك لا يريده ولكن ...ماذا يفعل مع رجل عالم أوتي لسانا صادقا وتأثيرا روحيا دفاقا, يعمل ما لايعمل الحسام.
.لذلك فليس من السهولة والحالة هذه ان ينزل بامامنا محنةاو يوقع به اذى. دون تلمس المبررات التافهة , والذرائع الباطلة لتكون سببا ظاهريا لها.
فعل ذلك في الوقت الذي عجز ان يؤاخذ امامنا الجليل على موالاته لاال سيدنا علي رضي الله عنهم... تلك التي نعتقد انها السبب الخفي المباشر لمحنته......
ومن الاسباب الظاهرة التي اتخذها المنصور ذريعة لمحنته الجائرة ,أن ابا حنيفة كان جريئا في بيان خطأ حكم القضاة في المسائل التي تعرض عليهم خصوصا اذا خالفت رايه , فيشكوه القضاة ليمتنع عن ذلك.....
(فقد روي أن ابن ابي ليلى القاضي, نظر في امرأة مجنونة قالت لرجل يا ابن الزانيين, فأقام عليها الحد في المسجد قائمة وحدها حدين واحدا لقذف ابيه, وحدا لقذف امه,فبلغ ذلك ابو حنيفة. فقال أخطأ فيها في ستة مواضع.أقام عليها الحد في المسجد, ولا تقام الحدود في المساجد, وضربها قائمة والنساء يرضبن قعودا , وضرب لابيه حدا ولامه حدا,ولو ان رجلا ضرب جماعة كان عليه حد واحد, وجمع بين حدين ولا يجمع بين حدين حتى يخفف احدهما, والمجنونة ليس عليها حد , وحد لأبويه وهما غائبان ولم يحضرا فيدعيا, فبلغ ذلك ابن ابي ليلى فدخل على الامير فشكاه اليه وحجر على ابو حنيفة. وقال لايفت) فلم يفتي اياما *........

وهكذا بدأت المحنة تدنوا منه شيئا فشيئا وهو صابر محتسب المحنة اخذت بالتتابع سريعة تنذر بوقوعها حيث سلك المنصور سبلا اخرى, فأرسل هدية ثمينة وهو يعلم أنها مردودة عليه لا محالة, ولكنه فعل ذلك ليضيف سببا اخر وحجة اخرى.ولعل من المناسب ذكرها هنا لتسلسل الموضوع

...( ارسل اليه ابو جعفر بجائزة عشرة الالاف درهم وجارية, وكان عبد الله بن حميد وزيره..فقال لأبي حنيفة عندما رفضها: انشدك الله ان أمير المؤمنين يطلب عليك علة فإن لم تقبل صدق على نفسك ما ظن بك فأبى.....)**
وحين أراد المنصور أن( يحرج) أبو حنيفة ويتخذ من رفضه لمنحه وعطاياه ممسكا ارسل اليه وقال له :فلم لاتقبل صلتي ؟
فقلت(اي قال ابو حنيفة)ما وصلني أمير المؤمنين في ماله بشئ فرددته ولو وصلني بذلك لقبلته انما وصلني أمير المؤمنين من بيت مال المسلمين ولا حق لي في بيت مالهم, اني لست ممن يقاتل من ورائهم, فأخذ مما يأخذ المقاتل, ولست من ولدانهم فأخذ ما يأخذ الولدان, ولست من فقرائهم فأخذ ما يأخذ الفقراء...)***ثم هناك سببا اخر.....
لقد مر بنا أن امامنا الممتحن, ابان وجهة نظره في قتال اهل الموصل وكان جوابه ذاك الذي أغاظ المنصور, فأسرها في نفسه وأحتفظها عنده. وهنا برر للمنصور سببا أخر وطلبا قد يكون وجيها, وذريعة ظنها محكمة ليجعل منها في انزال المحنة بامامنا الجليل والمنصور يعلم مسبقا أن طلبه مردود عليه ايضا.
ذلك هو توليه رئاسة القضاة في الدولة الاسلامية, فأن امتنع اخذ بهذا المنع, جهرة امام الناس, ملتمسابذلك عذرا عند العوام_ وهم( سواد الناس_الذين لا يدركون بواطن الامور ولا دوافع المطالب, مطالب الحكام), ثم ان ابو حنيفة وهو شيخ الفقهاء في العراق, وهو بحر في العلم لا تكدره الدلاء, فمن الصواب ان يكره على تولي القضاء لرفع منار العدل والحق في ارجاء الدولة وليس في الاكراه ظلم ظاهر عند العوام ...وان رضي بهذه التولية تم الصلح بينهما وحسم النزاع , وآمن الانكار, وأنتهت المناوأة, وأنى له عند ذاك أن ينكر ويناوئ ويعترض وقد اصبح من رجال الدولة ومن المسؤولين في الحكم والمشتركين فيه......
بهذا سولت للمنصور نفسه . فأقدم عيه بحزم.....
استدعى المنصور ابا حنيفة وعرض عليه تولي هذا المنصب الخطير, فأمتنع وأعرض, ولنسمع الحادثة من امامنا نفسه:
(... ان هذا دعاني للقضاء فأعلمته أني لا اصلح , و اني لأعلم ان البينة على المدعي واليمين على من انكر, ولكنه لا يصلح للقضاء إلا رجل يكون له نفس يحكم بها عليك, وعلى ولدك وقوادك, وليست تلك النفس لي, انك لتدعوني فما ترجع نفسي حتى افارقك ****

وجاء في هذا الرفض في مجلس آخر عن الربيع بن يونس : (رايت امير المؤمنين ينازل ابو حنيفة في امر القضاء وهو يقول له : اتق الله ولا تدع أمانتك إلا من يخاف الله , والله ما أنا بمأمون الرضا, فكيف لأكون مأمون الغضب؟ ولو أتجه الحكم عليك ثم هددتن يان تغرقني في الفرات اوالى الحكم لااخترت أن اغرق ...لك حاشية يحتاجون الى من يكرمهم لك فلا اصلح لذلك,
فقالابو جعفر) كذبت انك تصلح .
فقالابو حنيفة):قد حكمت على نفسك, كيف يحل لك ان تولي قاضيا على امانتك كذابا ؟
وهنا حصل المنصور على مايريد, ونال ما بيت في نفسه, فأنزل به المحنة... اذكرها بروايتها
روي عن داود بن راشد الواسطي, انه قال كنت شاهدا حين عذب الامام ليتولى القضاء, وكان يخرج كل مرة فيضرب عشرة اسواط حتى ضرب عشرا ومئة سوط.وكان يقال له: اقبل القضاء, فيقول: لااصلح فلما تتابع عليه الضرب؟ قال خفيا: (اللهم ابعد عني شرهم بقدرتك) فلما ابى دسوا عليه السم فقتلوه ******
( وروي ان ابا جعفر المنصور حبس ابا حنيفة على ان يتولى القضاء ويصير قاضي القضاة فأبي حتى ضرب مائة سوط وعشرة اسواط و أخرج من السجن على ان يلزم الباب ّ

وروي ان المنصور حبسه وضيق عليه مدةو وكلم المنصور بعض خواصه فأخرج من السجن ومنع من الفتوى والجلوس للناس والخروج من المنزل , فكانت تلك حالته الى ان توفي (8)........

تلك محنة الامام ابي حنيفة و منعا عن التدريس والافتاء. و(اقامة جبريةفي الدار, وضربا بالسياط, وحبسا في السجن ثم قتلا بالسم ان صدقت الرواية,كل ذلك لانه ابي ان يساير الحكام في اهوائهم وأن يوافق على اعمالهم وأن يستجيب لطلباتهم ...وهكذا ينبغي ان يكون العلماء في كل حين ان كانوا علماء حقا...
( ...مات ابو حنيفة كما يموت الصديقون والشهداء وكان ذلك سنة 150 ه وكان في الموت راحة لذلك الضمير المضيئ ولذلك الوجدان الديني المرهف, ولذلك القلب القوي, ولذلك العقل الجبار, ولتلك النفس الصبور,التي لاقت الاذى فاحتملته و لاقته من الخالفين له في الاراء ورميت في كل رمية, فتحملتها مطمئنة راضية مرضية , ولقيت الاذى من السفهاء ثم لقيته من الامراء والخلفاء.
وما ضعفت وما وهنت , واذا كان للنفوس جهاد , ولجهادها ميادين,فأبو حنيفة رضي الله عنه كان أعظم ابطال ذلك النوع من الجهاد, وممن انتصر في كل ميادينه.
وكان جلدا في جهاده قويا في جلاده, حتى وهو يلفظ النفس الاخير فهو يوصي بان يدفن في ارض طيبة لم يجر عليها غضب, ان لا يدفن في ارض اتهم امير بانه غصبها حتى يروى أن أبا جعفر عندما علم بذلك قال من يعذرني من أبي حنيفة حيا او ميتا ....)(9)
وبموته رضي الله عنه انتهت محنته ثم تتابعت المحن تنزل بأقرانه من أئمة المسلمين ....

م ن ق و ل

شكرا لك وزدنا ياخ العرب مثل هذه القصص الموثره

عضو قديم رقم 323623
قبل 9 سنوات و10 أشهر
5

نقلت وابدعت الله يبارك فيييك ..

أضف رداً جديداً..