يبدأ القرآن الكريم بسورة الفاتحة، التي نتلوها في صلواتنا كل يوم، وجوهرُ هذه السورة منذ الآية الأولى هو الإيمان بالغيب؛ فالابتداءُ بالبسملة المشتملة على اسم الله -تعالى- إقرارٌ بالغيب، وإيمانٌ بالله -تعالى- وجعلٌ لاسمه الكريم مفتاحًا لكل عمل أو نشاط ومقرونًا به؛ ذلك أن الله -تعالى- غيبٌ، والإيمان به هو إيمان من وراء حجاب، والتوسل به هو توسل بهذا الغيب الذي لا نراه.
وعندما نمضي قدمًا في قراءة السورة؛ فإننا نرى فيها الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، وهذا الصراط هو الآخَرُ غيبٌ، فالإيمان بالإسلام يعني الإيمان بالغيب، وتفسير الصراط المستقيم على أنه يعني الإسلام - يُشِير إلى أن الدعاء هو طلبُ الهداية إلى الإيمان الصادق بالغيب، إيمان السائرين على الهَدْي الحقيقي القويم.
إن الإيمان بالغيب يمثِّل أهم ركيزة في العقيدة الإسلامية ، وإذا ما استقرأنا القرآن الكريم، فإننا سنجد أن الغيب هو المحور الذي يدور عليه كلُّ أشكال الدعوة إلى الإيمان، وأنه من ثَمَّ هو الدين؛ فالإسلام يعني الإيمانَ بما جاء به رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتصديقَه فيما أخبر عنه، وأن ما أخبر عنه غيبٌ حتمًا، ونبوته غيب، والقرآن غيب، على الرغم من أننا نراه في صورته المكتوبة المادية بين أيدينا، فنحن نؤمن أن هذا الكتاب الكريم هو كلام الله -تعالى- وكلامُه - سبحانه - غيبٌ، نزل به الروح الأمين، وهو غيب، على قلب سيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي كان الوحيُ بالنسبة إليه عالَمَ شهادةٍ وحقيقةً ملموسة، ولكنه بالنسبة إلى الآخرين كان خبرًا، والتسليم بصحة هذا الخبر يعني التسليم بالغيب.
وعندما نقرأ سورة الفاتحة، فإننا نجد أنفسنا في دائرة الغيب الكامل، فالسورة تبدأ بحمد الله، الذي هو غيب، وبوصف الله -تعالى- برب العالمين، وهذه الربوبية غيب، ويوم الدين غيب، وإفراده بالعبودية قائم على الإيمان به غيبًا، والاستعانة به وحدَه غيب هو الآخر؛ لأنه ثمرة الإيمان بالغيب، فعملُنا ودعاؤنا كلُّه عبارة عن التفاعل مع الغيب، وإذ يترسخ هذا المستوى من الإيمان بالغيب؛ نعرج على طلب الهداية منه إلى الصراط المستقيم، الذي أشرت إليه آنفًا.
والغيب هو ما تبدأ به سورة البقرة ، فقد أورد العلماء للآية الأولى فيها ﴿ الم ﴾ تأويلاتٍ مختلفة، وبيَّنوا أن ما ذكروه لا يَعْدُو كونه اجتهادًا وتأويلاً، وأجمعوا على أن المرادَ الفعلي بها لا يعلمه غير الله -تعالى- فدلالة هذه الآية غيب إذًا، والمؤمنون يتعبَّدون بها؛ لإيمانِهم بالغيب من غير أن يدركوا لها مقصدًا محددًا، وأما من عداهم، فلهم معها شأن آخر.
والآيات التي تلي هذه الحروف المقطَّعة تدور هي الأخرى على الغيب؛ ففيها الإشارة إلى الكتاب الذي ألمحنا آنفًا إلى أن وجودَه المادي الملموس لا ينفي عنه صفة الغيب، وفيها كذلك الإشارة إلى صفات المتقين.
وبيَّن القرآن الكريم أن المتقين هم المؤمنون بالغيب : ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 2، 3]، والصلاة والإنفاق أعمالٌ ما كانت لتتمَّ لولا الإيمان بالغيب، فهما يؤدَّيان إيمانًا بِمَن فرضهما، وهو الله -تعالى- وهو غيب، ورجاء الجزاء الموعود عليهما، وهو غيب أيضًا.
﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 4، 5]، وكما ذكرنا أن الإيمان بالقرآن يعني الإقرار بالغيب، فإن الحال كذلك بالنسبة إلى الكتب السابقة، وعطف على ذلك كله التصديق بالآخرة، التي هي غيبٌ كما لا يخفى تصديق الأشياء والحوادث المشهودة دون أن يخالطها شبهة احتمال، فإذا كان المرء على ذلك في مكنون فؤادِه؛ كان على هدًى من ربه، وكان من المفلحين، أو ليست أركان الإيمان غيبًا؛ وهي : الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؟
فالدعوة إذًا قائمةٌ على اعتقاد الغيب ، وعدم الاكتفاء بما يوصل الحسُّ إليه، وبالجمع بين اعتقاد الغيب وإدراك عالم الحس - أي : عالم الشهادة - تكتمل الحلقةُ الخاصة بالوجود وأسراره، والاكتفاء بالغيب فقط، أو بعالم الحس وحسب - يُشِير إلى معرفة ناقصة بطبيعة الوجود.
والمفلحون هم أصحاب المعرفة الكاملة، وأما الكافرون، فإنهم لا ينفع معهم إنذار؛ لأن قلوبهم مغلقة عن الإقرار بالغيب؛ : ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [البقرة: 7]، وهي وسائلهم الحسيَّة التي اصطنعوها بصورةٍ سطحية وساذجة في تشكيل المعرفة.
وإلى جانب هاتين الفئتين توجد فئةٌ ثالثة، هم المنافقون الذين كانوا من الكافرين، ولكنهم ظنوا أنهم يخدعون المسلمين؛ فكانوا يتظاهرون بالإيمان، والآيات 8 -20 من سورة البقرة تدور عليهم.
إن سبب العزوف عن الإيمان بالغيب هو الانحباس على الحس؛ ولهذا فإن القرآن الكريم لفت أنظارَ الناس جميعًا - مؤمنين وكافرين ومنافقين - إلى عملية "الخلق"، الذي هو ظاهرة حسية يلمسونها، ولكن المُنكِرين منهم يغفلون عن استخلاص الحقيقة الغيبية منها : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22]؛ فالخلق ظاهرة غيبية، ولكن لها مظاهر حسية، وكذلك القرآن الكريم غيبٌ وله دلائل ملموسة؛ فالمخلوقات تُرَى وتُحَسُّ، والقرآن يُتلى ويُسمَع، وإن جحود الجاحدين وشكَّ الشاكِّين هو في مَن وراء هذا الغيب؛ أي : الخالق - سبحانه وتعالى - ولكن القرآن الكريم في هذا الموضع قدَّم التركيز على صدق القرآن المنَزَّل : ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23، 24]؛ فهذا الكتاب في ألفاظه من جنس ما كان العرب يتكلَّمون به، ولكنه تحداهم أن يحاكوه في ذلك الوقت، وفي المستقبل، وبعدئذٍ جاءت آية في بيان إعجاز الخلق : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26]، ثم أفاض في بيان خلق السموات والأرض والإنسان.
وقد كان أهل الكتاب من بين المُنكِرين ، وهم من جهةٍ كانوا يؤمنون بإلهٍ خالق، ولكنهم جحدوا نبوة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فسرد عليهم - إلى الآية 75 - ما كان منهم، وكان كلُّ ما حكاه عنهم غيبًا، لمن لم يكن على علم به، غير أنه كان حقيقةً ملموسة لبني إسرائيل، أو لعلمائهم على الأقل، بما كان لديهم من كتاب، ومن ثَمَّ فإن هذا القرآن الذي يوافق قصُّه لما هو معهم، لا بدَّ أن يكون مصدره هو الله - سبحانه وتعالى.
فهناك إذًا المؤمنون الذين استخلص الله -تعالى- قلوبَهم، والكافرون والمنافقون الذين لم يشاؤوا الإيمان بالغيب لأي سبب كان، وقد جُوبِهوا بتحدِّيَينِ، هما : القرآن والخلق، وأهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون ب "الله" -تعالى- ولكنهم كفروا بنبوة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد عُرض عليهم العلم الذي كانوا يحسبون أنْ لا أحد سواهم يعرفه، مع بقاء نمط الخطاب الموجَّه إلى كل فئة ذا فاعلية واضحة للفئات الأخرى.
وفي سورة البقرة عددٌ من القصص والحوادث المقترنة بالغيب ؛ كجانب من قصة بني إسرائيل، وسؤال سيدنا إبراهيم - عليه السلام - عن كيفية إحياء الموتى، وكقصة العبد الذي مرَّ على قرية وتساءَلَ عن كيفية إحيائها؛ فأماته الله مائة عام، وغيرها، إنها جميعًا تدورُ في فلك الغيب وفي فلك الإيمان به.
وتختتم السورة بآيتينِ هما زبدة الإيمان بالغيب ، وخلاصة الارتباط بالله -تعالى- والتضرُّع إليه؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((مَن قرأ بالآيتينِ من آخر سورة البقرة في ليلة، كفَتَاه))؛ "صحيح البخاري حديث رقم 5008، صحيح مسلم حديث رقم 808"؛ لأنهما جوهر ما هو مطلوب من العبد أن يعتقده في حياته، ويَأمُله من بارئه.