الصبر على الطاعة من أفضل أعمال البرّ
قال الشافعي: "رأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة، يدور نهاره أجمع حافياً راجلاً على القينات يعلمهن الغناء، فإذا أتى الصلاة صلى قاعداً"
الصبر هو نصف الإيمان، وذلك لأن الإيمان نصفه صبر والنصف الآخر شكر، وقد ذُكِر الصبر في القرآن في تسعين موضعاً في موطن المدح والثناء والأمر به، وهو واجب بإجماع الأمة، وهو أنواع:
1. الصبر على طاعة الله، وهو أفضلها.
2. الصبر عن معصية الله عز وجل، وهو يلي النوع الأول في الفضل.
3. الصبر على امتحان الله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله: (فالأولان صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث صبر على ما لا كسب للعبد فيه.
وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، ولا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، أما صبره عن المعصية، فصبر اختيار ورضا، ومحاربة النفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية، وعَزَباً ليس له ما يعوضه ويبرد شهوته، وغريباً والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه مَنْ بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكاً والمملوك أيضاً ليس له وازع كوازع الحر، والمرأة جميلة، وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار، ومع هذه الدواعي كلها صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه؟!
وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرَّمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية).1
وما قاله شيخ الإسلام هو الحق، فقد قرن الله بين الصبر والإيمان والعمل، حيث قال في سورة العصر: "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكانت كافية وحجة على الأمة.
والدليل على ذلك أن كثيراً من الخلق يسهل عليهم الصبر على المصائب والبلايا وعن المعاصي، ولكن قليل منهم من يصبر على طاعة الله عز وجل، بل من الناس من يصبر على المعاصي ويتحمل من أجلها ما لا يتحمل معشار معشاره على طاعة الله عز وجل.
قال المزني رحمه الله: (سمعتُ الشافعي رحمه الله يقول: رأيتُ بالمدينة المنورة أربع عجائب، رأيتُ جَدَّة بنت إحدى وعشرين سنة، ورأيتُ رجلاً فلسه القاضي في مدين نَوَى، ورأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة، يدور نهاره أجمع حافياً راجلاً على القينات يعلمهن الغناء، فإذا أتى الصلاة صلى قاعداً، ونسيتُ الرابعة).2
وشاهدنا في قوله: "ورأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون.." إلخ.
وما تعجب منه الشافعي، وحق له أن يعد ذلك من العجائب، مُشاهَد، فإنك تجد البائع واقفاً في سوقه من الصباح إلى المساء لا يفتر ولا يقعد، وكذلك مشجع الكرة يقف على رجل واحدة ويصيح بملء فيه ويدخل الملعب قبل ثلاث ساعات من موعد المباراة، وتجد الفنان يقيم الحفلة إلى مشارف الصبح، والمصلي يخرج من المسجد يقف يتكلم في أمور الدنيا الساعة والساعتين، وغيرُهم كثير، فإذا استغرقت الصلاة ربع ساعة، أواطمأن الإمامُ في ركوعه وسجوده قليلاً، قامت الدنيا ولم تقعد، وتضجَّر الناسُ، واشتكوا، ومنهم من يشكو الإمام إلى المسؤولين وإلى لجنة المسجد، ورفع في وجه الإمام كلمة الحق التي يريدون بها باطلاً: "من أمَّ الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف.." الحديث.
وكأن الصحابة رضوان الله عليهم الذين كان يؤمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المغرب أحياناً بالأعراف والصافات، والذين أمهم أبوبكر الصديق مرة بالبقرة كلها في صلاة الصبح، والذين كثيراً ما كان يؤمهم عمر في الصبح بيوسف، وهود، والنحل، ليس فيهم مريض ولا ضعيف؟
وتثريب الرسول صلى الله عليه وسلم على معاذ رضي الله عنه لأنه كان يصلي معه العشاء ثم يذهب ليؤم قومه بعد ذلك، وقد أمهم يوماً بالبقرة في الركعة الأولى من العشاء، وبالقمر في الثانية، وعندما خرج أعرابي من صلاته نال منه معاذ بأنه منافق! ومن أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.
أين هذا كله مما عليه الأئمة الآن؟! فتبيَّن أن احتجاج البعض بهذا الحديث ليس في موضع النزاع، فمن فعل كما فعل معاذ يكون فتاناً حقاً، ولكن مَنْ مِن الأئمة الآن يستطيع أن يفعل ذلك ولو كان فذاً؟!
أعجب من هؤلاء جميعاً من يحيي ليله بالرقص، والتواجد، والضرب بالأقدام على الأرض، فإذا حان وقت صلاة الصبح تفرَّق جلهم، ومن بقي صُلِّيَ بهم بقصار المفصل من غير اطمئنان ولا خشوع.
لقد صاغ العلامة ابن القيم رحمه الله حال هذه الطائفة الصوفية التي أسِّست على الكسل كما قال الشافعي، شعراً، حيث ذكر جدهم واجتهادهم عند السماع، والرقص، والتواجد، الذي هو دين عباد العجل، عندما اتخذ لهم السامري عجلاً جسداً له خوار، فقاموا حواليه يرقصون ويتواجدون حتى يقع أحدُهم مغشياً عليه، فالرقص، والتواجد، والسماع الصوفي ليس من الذكر الذي شرعه الله لعباده على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان هو وأصحابه يذكرون الله وكأنما على رؤوسهم الطير من الوقار والسكينة، مقارناً له بصدودهم عن سماع آي القرآن والعلم، وعن الخشوع والاطمئنان في الصلاة التي هي من أجلِّ العبادات وأفضل القربات، قائلاً3:
تُلي الكتابُ فأطرقوا، لا خيفةً لكنه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى الغناءُ فكالحمير تناهقوا و الله ما رقصوا لأجل الله
دفٌّ، ومزمارٌ، و نغمة شادنٍ فمتى رأيتَ عبادةً بملاهي ؟
ثَقُل الكتابُ عليهمُ لما رأوا تقييده بأوامر و نواهي
سمعوا له رعداً وبرقاً إذ حوَى زجراً و تخويفاً بفعل مناهي
ورأوه أعظمَ قاطعٍ للنفس عن شهواتها ، يا ذبحها المتناهي
وأتى السماعُ موافقاً أغراضها فلأجل ذاك غدا عظيمَ الجاه
أين المساعدُ للهوى من قاطع أسبابَه عند الجَهول الساهي؟
إن لم يكن خمرَ الجسوم فإنه خمرُ العقول مماثلٌ ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النسوان عند ملاهي
و انظر إلى تمزيق ذا أثوابه من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم فأيُّ الخمرتين أحقُّ بالتحريم والتأثيم عند الله ؟
وقال كذلك:
ذهب الرجالُ و حال دون مجالهم زُمَرٌ من الأوباش والأنذال
زعموا بأنهم على آثارهم ساروا و لكن سيرة البطَّال
لبسوا الدَّلوق مرقَّعاً و تقشفوا كتقشف الأقطاب و الأبدال
قطعوا طريق السالكين و غوَّروا سبل الهدى بجهالة وضلال
عَمَروا ظواهرهم بأثواب التقى وحَشَوا بواطنهم من الأدغال
إن قلت : قال الله قال رسوله هَمَزوك همزَ المنكِر المتغالي
أو قلتَ : قد قال الصحابة والأولى تبعوهم في القول والأعمال
أو قلتَ : قال الآلُ آل المصطفى صلى عليه الله أفضلُ آل
أو قلتَ : قال الشافعي و أحمدُ و أبو حنيفة والإمام العالي
أو قلتَ : قال صحابهم من بعدهم فالكلُّ عندهم كشِبه خَيال
ويقول : قلبي قال لي عن سرِّه عن سرِّ سرِّي عن صفا أحوالي
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي عن شاهدي عن واردي عن حالي
عن صَفْو وَقْتي عن حقيقة مشهدي عن سرِّ ذاتي، عن صفات فعالي
دَعْوَى إذا حققتها ألفيتها ألقابَ زُور لفِّقت بمحال
تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا بظواهر الجهَّال والضلال
جعلوا المِرا فتحاً وألفاظ الخنا شطحاً وصالوا صولة الإدلال
نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم نبْذَ المسافر فضلة الأكَّال
جعلوا السماع مطية لهواهُمُ وغَلَوا فقالوا فيه كل محال
هو طاعة، هو قربة، هو سنة صدقوا، لذاك الشيخ ذي الإضلال
شيخ قديم، صادهم بتحيُّل حتى أجابوا دعوة المحتال
هجروا له القرآن والأخبار و الآثار إذ شهدت لهم بضلال
و رأوا سماع الشعر أنفع للفتى من أوجهٍ سبعٍ لهم بتوال
تالله ما ظفر العدو بمثلها من مثلهم، واخيبةَ الآمال
نصب الحبال لهم فلم يقعوا بها فأتى بذا الشَّرَك المحيط الغالي
فإذا بهم وسط العرين ممزقي الأث واب والأديان والأحوال
لا يسمعون سوى الذي يَهْوونه شغلاً به عن سائر الأشغال
و دعوا إلى ذات اليمين فأعرضوا عنها ، وسار القوم ذاتَ شمال
خرُّوا على القرآن عند سماعه صماً و عُمْياناً ذوي إهمال
و إذا تلا القاري عليهم سورة فأطالها عدَّوه في الأثقال
ويقول قائلهم : أطلتَ ، و ليس ذا عَشْر ، فخفِّف ، أنت ذو إملال
هذا، وكم لغوٍ ، وكم صَخَبٍ، وكم ضَحِكٍ بلا أدب ، ولا إجمال
حتى إذا قأم السماع لديهمُ خشعت له الأصوات بالإجلال
وامتدت الأعناقُ، تسمع وَحْي ذاك الشيخ من مترنَّمٍ قوَّال
وتحركت تلك الرؤوس، وهزَّها طربٌ و أشواق لنيل وصال
فهنالك الأشواق والأشجان والأح وال ، لا أهلاً بذي الأحوال
اعلم أخي الكريم أن الخشوع في الصلاة هو سرها ومقصودها، وأن الاطمئنان في الركوع والسجود هو فرض في الصلاة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمن لم يطمئن في صلاته حيث كان ينقرها كما ينقر الديك الحب، وكما يفعل ذلك كثير من المصلين اليوم: "صلِّ، فإنك لم تصلِّ" ثلاث مرات، وقد جاء في الأثر: "كم من مصلٍّ سبعين وفي رواية ثمانين سنة، ليس له من صلاته شيء، ربما أكمل ركوعها ولم يكمل سجودها، أوأكمل سجودها ولم يكمل ركوعها".
واللهَ أسألُ أن يرزقنا الصبر على الطاعة، وأن يحبِّب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا وجميع إخواننا المسلمين من الراشدين، ونسألك اللهم حبَّك، وحبَّ من يحبك، وحبَّ عمل يقرِّبنا إلى حبك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بداية الصفحة
قال الشافعي: "رأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة، يدور نهاره أجمع حافياً راجلاً على القينات يعلمهن الغناء، فإذا أتى الصلاة صلى قاعداً"
الصبر هو نصف الإيمان، وذلك لأن الإيمان نصفه صبر والنصف الآخر شكر، وقد ذُكِر الصبر في القرآن في تسعين موضعاً في موطن المدح والثناء والأمر به، وهو واجب بإجماع الأمة، وهو أنواع:
1. الصبر على طاعة الله، وهو أفضلها.
2. الصبر عن معصية الله عز وجل، وهو يلي النوع الأول في الفضل.
3. الصبر على امتحان الله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله: (فالأولان صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث صبر على ما لا كسب للعبد فيه.
وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، ولا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، أما صبره عن المعصية، فصبر اختيار ورضا، ومحاربة النفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية، وعَزَباً ليس له ما يعوضه ويبرد شهوته، وغريباً والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه مَنْ بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكاً والمملوك أيضاً ليس له وازع كوازع الحر، والمرأة جميلة، وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار، ومع هذه الدواعي كلها صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه؟!
وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من