الحديث عن علاقة الغذاء بالدواء، ليس طرحاً أكاديمياً محله المجلات العلمية المتخصصة، بل هو طرح عملي ذا أهمية وحساسية عالية، على مستوى التثقيف الطبي لعامة الناس، ذلك أن التبعات السلبية لتفاعل الغذاء مع الدواء شائعة جداً، وتأثيراتها واضحة على احتمالات عدم، أو تأخير، زوال البأس عن المريض.
وتتضمن المعايير المعتمدة في عام 1996، للجنة المشتركة لمفوضية منظمات الرعاية الصحية في الولايات المتحدة JCAHO، الطلب من المستشفيات والعاملين فيها التأكد من أن المريض تم تثقيفه بالتفاعلات المحتملة بين الغذاء والدواء، والتعليمات الخاصة بكل دواء يتناوله.
ولا تقتصر تلك التفاعلات السلبية على الأدوية المهمة، بل تطال حتى التي لا ينظر إليها البعض بالأهمية اللازمة، كحبوب الفيتامينات أو المعادن أو مضادات الحموضة أو غيرها.
وصحيح أن بعض الأدوية تتحمل الطعام وإفرازات الجهاز الهضمي، إلا أن البعض الأخر منها قد يتفاعل مع ما في المعدة أو الأمعاء، ما قد يُعيق امتصاصها أو يُغير تركيبها، ولذا نجد بعضاً منها علينا تناولها على معدة خالية، بينما لا علاقة للبعض الأخر منها بالطعام أو بإفرازات الجهاز الهضمي أو بأي أدوية يتناولها المرء معها في نفس الوقت.
وكان تعلق الدكتورة سوزانا أوباريل، رئيسة المجمع الأميركي لارتفاع ضغط الدم وبروفسورة الطب الباطني بجامعة ألاباما: "ربما في الليل يكون امتصاص الأمعاء للدواء أفضل"، الأمر الذي يُعيد ضرورة إبقاء فتح باب الحديث على مصراعيه حول اختلاف مفعول الدواء على جسم المريض بتأثير عوامل متعددة، لا يقل بعضها أهمية عن البعض الآخر.
ولئن كان على الأطباء لزاماً أن يُقدموا تلقائياً إلى المرضى "الثمرة النهائية" لمعرفتهم حول كيفية تناول الدواء بطريقة مُثلى، فإن ثمة الكثير مما يجدر الإحاطة به حول تعليل جوانب "حركة الدواء" وتأثره بالبيئات المتنوعة في أجزاء متفرقة من الجسم، وخاصة عن التفاعل بين الدواء وبين الطعام "diet-drug interaction".
«حركة الدواء» والجهاز الهضمي
والدواء، أياً كان، عبارة عن مركب كيميائي، يتم اكتشافه من بين المواد التي لا نتناولها عادة بتلك الكمية الموجودة في الأقراص أو الكبسولات أو الحقن أو الهيئات الأخرى للأدوية.
أنه ذو تركيبة كيميائية حساسة، وتتأثر بالتالي فاعلية وجدوى أنواع منها، بل غالبيتها، بالحرارة أو الضوء أو الهواء أو الرطوبة. هذا بالإضافة إلى أن المطلوب منها القيام به، في الجسم، هو التأثير على نقاط دقيقة في خلايا أعضاء معينة، أو أنظمة فسيولوجية أو كيميائية محددة، أو مناطق تشابك خلايا مختلفة في نوعية عملها وانتمائها البيولوجي، وغير ذلك.
وبعبارات مبسطة، دون اللجوء إلى الترجمة العلمية الحرفية للمصطلحات اللاتينية إلى العربية، فإن ثمة ما يُعرف في علم الصيدلة بـ "حركة الدواء" pharmacokinetics ، وهناك بالمقابل أيضاً ما يُعرف بـ " تأثير الدواء" pharmacodynamics. وبينما يُعنى البحث في جانب "حركة الدواء" حول معرفة "ما الذي يفعله الجسم على الدواء"، فإن البحث في جانب "تأثير الدواء" يُعنى بمعرفة "ما الذي يفعله الدواء على الجسم".
وبالتركيز على جانب "حركة الدواء"، فإن ما يتفرع عنه عدة مجالات للبحث في كل دواء على حده. وهو ما يشمل:
- معدل "امتصاص الجسم للدواء، سواءً أُعطي الدواء عبر الفم أو الجلد أو أحد فتحات الجسم، كالأنف أو العين أو الشرج أو غيرها.
- مدى وأماكن "انتشار" Distribution الدواء.
- العمليات الأيضية bolism ، أو التمثيلية، التي يتعرض الدواء لها في أعضاء أو أنسجة معينة في الجسم.
- كيفية وسبيل "إخراج" Excretion الجسم للدواء أو المركبات الناتجة عن خضوعه لعمليات الأيض.
وبعيداً عن الخوض في جانب "تأثير الدواء" على الجسم، وعن جوانب الانتشار أو التمثيل الكيميائي أو الإخراج التي يتعرض لها الدواء، وبعيداً أيضاً عن العرض لكل جوانب امتصاص الجسم للدواء، فإن ما يهم الكثيرين حينما يسألون الطبيب: "هل أتناول الدواء قبل أو بعد الأكل؟"
هو ما الذي يُؤثر به الجهاز الهضمي، وما فيه من طعام وإفرازات وأدوية أخرى، على تركيبة دواء معين وعلى امتصاص الأمعاء له كما ينبغي، كي يصل إلى أنسجة الجسم ويُفيد في معالجة مرض ما.
أي ما يشمل تأثير تفاعل الدواء مع الطعام، وتأثير الجهاز الهضمي على الدواء، وتفاعلات الدواء مع أدوية أخرى حينما يكونوا سوياً في قنوات الجهاز الهضمي.
وعينا أيضاً تذكر جانب مهم، وهو أن ما يحتويه الطعام من عناصر غذائية لا يقتصر في تأثير فقط على عملية الامتصاص بالأمعاء، بل يتعدى تأثير بعض من تلك العناصر الغذائية على الدواء نفسه، إلى مجموعة من العمليات الكيميائية الحيوية التي تجري في أماكن شتى من الجسم، كالكبد أو الكلى أو الدم أو الأنسجة المختلفة.
وهذا التأثير للغذاء، أو غيره من العوامل، على الدواء في الأنسجة هو ما يُسمى بـمستوى "التوفر الحيوي" Bioavailability للدواء.
تفاعل الطعام مع الدواء
ودون الحديث عن جانب "التوفر الحيوي"، فإن هناك أربعة آليات رئيسية للتفاعل ما بين الغذاء والدواء وتأثيره على امتصاص الدواء، وهي الارتباط الفيزيائي الكيميائي Physicochemical binding، و مستوى الثبات Stability، وسرعة إفراغ المعدة Gastric emptying، والتنافس على الامتصاص Competition for absorption، ويُمكن للإحاطة العامة بهذه الآليات الأربعة، إدراك ملامح تُوضح ما قد يكفي أحدنا لرؤية صورة علاقة التفاعلات بين الغذاء والدواء في جانب الامتصاص.
والأصل في غالب، وليس كل، الأدوية التي تُعطى عبر الفم، أن يتم تناولها وتوصيلها إلى الأنسجة المُراد علاجها دون أن تتأثر تركيبتها الكيميائية، أي من بدء وضعها في الفم، مرورها بكل من المعدة والأمعاء، وامتصاصها، ومن ثم مرورها بالكبد، مع الدم الذاهب من الأمعاء إلى القلب، وبعد ذلك توزيعها مع الدم الذي يضخه القلب إلى كافة أرجاء الجسم.
ومعلوم أن الأدوية التي يتم تناولها عبر الفم، يتم امتصاصها بالدرجة الأولى في الأمعاء، لأنها هي المكان المتخصص في القيام بعملية امتصاص الغذاء أو غيره، إلا أن هناك حالات يتم فيها إنتاج أدوية بهيئة تُسهل امتصاصها في الفم أو المعدة، ومعلوم أيضاً أن إتمام عملية امتصاص الدواء، يتطلب أن يذوب القرص أو الكبسولة، في البيئة السائلة للمعدة والأمعاء، وهو ما يتم بفعل الماء الذي نشربه عند بلع الدواء، وبفعل الإفرازات السائلة للعاب والمعدة والأمعاء.
ولذا فإن شرب الماء بوفرة مع الدواء ليس لتسهيل بلعه فحسب، بل أيضاً لتسهيل ذوبانه وامتصاصه.
ويُمكن لمكونات الغذاء الارتباط مع الدواء وفق آليات فيزيائية كيميائية، وبالتالي يغدو من غير الممكن، أو الصعب، على الأمعاء امتصاص أي من الغذاء أو الدواء، وكمثال، يرتبط تيتراسيكلين، أحد المضادات الحيوية، بالكالسيوم أو بالحديد أو المغنيسيوم أو الزنك، ما يُؤدي إلى عسر امتصاصها عبر الأمعاء، ولذا يُنصح منْ يتناول ذلك المضاد الحيوي بأن لا يتناول معه مشتقات الألبان.
ثبات تركيبة الدواء
وحينما تصل حبة الدواء إلى المعدة، ذات البيئة السائلة، يتم بدء عملية ذوبان الدواء ضمن مزيج سائل المعدة، وتتحكم صناعتنا للدواء في آلية وسرعة ذوبان حبوبه، ومعلوم أننا كلما وفرنا للمريض دواءً يؤُخذ مرة واحدة، أو مرتين مثلاً، في اليوم، فهو أفضل، من أربع أو ست مرات، لجهة التزامه بتناول الدواء.
كما أن توفير دواء يُؤخذ مرة أو مرتين في اليوم، يُؤمن المحافظة على مستوى ثابت، بشكل نسبي أفضل، للدواء في دم الإنسان.
وهو ما يجعل مفعوله العلاجي يُغطي أطول فترات ممكنة من ساعات اليوم الواحد، ومن جانب ثالث، قد تكون الغاية من إبطاء عملية تحرر الدواء من عبوته، أي الحبة أو الكبسولة، هي حماية المعدة من التأثير السلبي المباشر لوجود ذلك الدواء فيها، وحماية الدواء أيضاً من التأثيرات السلبية لإفرازات المعدة عليه.
ولذا نسمع عن أدوية ذات نوعيات مُطورة تُدعى "بطيئة التحرر" slow-release ، تُؤخذ مرة في اليوم مثلاً، مقارنة مع أنواع سريعة التحرر، ما يعني سرعة ارتفاع نسبتها في الدم، ولأوقات قصيرة.
كما أننا نسمع عن أدوية مغلفة enteric coatings بمادة يصعب ذوبانها في المعدة، ولا تتحلل إلا حينما تصل حبة الدواء إلى الأمعاء.
ولو تعمقنا قليلاً في فهم عملية امتصاص خلايا الأمعاء أو المعدة للدواء، في جانب التنافس على الامتصاص، فإن ثمة حاجز دهني يحول دون سهولة وصول ما يمر في خلال الأمعاء، أو المعدة، إلى الأوعية الدموية.
وما يسهل وصوله إلى الدم، عبر خلايا الأمعاء، هو المركبات الصغيرة وغير المحملة بشحنات كهربائية.
ولأن بيئة المعدة ذات طابع حامضي، وبيئة الأمعاء ذات طابع قلوي، ومع الأخذ بعين الاعتبار عملية التأين Ionization ، أي التحول إلى أيونات، التي تطال بعض المركبات الكيميائية للأدوية بفعل مكونات مزيج البيئة المحيطة بها، فإن المركبات ذات الصبغة الحامضية الضعيفة يسهل امتصاصها في المعدة، أي كالأسبرين، والمركبات ذات الصبغة القلوية البسيطة يسهل امتصاصها عبر الأمعاء، مثل الكافيين.
سرعة إفراغ المعدة
والسرعة في حركة القناة الهضمية، سواءً سرعة إفراغ المعدة من محتوياتها أو سرعة حركة الأمعاء الدقيقة، عامل مؤثر بحد ذاته في عملية امتصاص الأمعاء للدواء، ويتم امتصاص الأدوية في الأمعاء غالباً، ولكي يصل الدواء إلى الأمعاء عليه أن يمر بالمعدة، ولذا فإن مستوى سرعة إفراغ المعدة لمحتوياتها عامل مهم في التأثير السلبي أو الإيجابي على وصول الدواء سليماً وسريعاً إلى الأمعاء، وبالتالي على سرعة ارتفاع نسبته في الدم ووصوله إلى الأنسجة المريضة لمعالجة ما بها من اضطراب.
والعكس صحيح في الغالب. وبالتالي فإن فهمنا لحركة معدتنا أساس في فهمنا دواعي إرشادات الطبيب لنا حول كيفية تناول دواء معين، وتحديداً هل يكون تناول هذا الدواء على معدة خالية أو معدة عامرة بالطعام؟ ولماذا تختلف نصائح الأطباء باختلاف نوع الدواء؟
وثمة ثلاث مراحل طبيعية لعملية إفراغ المعدة لما يتجمع فيها من أطعمة وسوائل وأدوية، اثنتان منهما مرتبطتان بتناول وجبة معينة، أحدهما سريعة والأخرى بطيئة، والمرحلة الثالثة، لا علاقة لها بالأكل، وتحصل مرة كل يوم تقريباً، ويتم فيها إفراغ كامل ما في المعدة إلى الأمعاء.
وحينما نبدأ بالأكل، ونضع في معدتنا بضعة لقيمات، فإن كميات قليلة نسبياً من ذلك الطعام لا تستقر في المعدة، بل تتجاوزها سريعاً كي تدخل مباشرة إلى الأمعاء، أي بسرعة و دونما أن تتأثر بالمعدة وعصاراتها، وما أن تصل تلك الكمية القليلة من الطعام إلى الأمعاء، حتى ترسل الأمعاء إشارات عصبية وهرمونية، من شأنها إبطاء خروج الطعام من المعدة.
والغاية من هذا الضبط لإفراغ المعدة، هي إعطاء فرصة ليتم هضم الطعام جيداً في المعدة، وفي نفس الوقت إتاحة فسحة زمنية كافية، ومتدرجة، للأمعاء حتى تتمكن من امتصاص كامل العناصر الغذائية الموجودة فيما يصلها من طعام مهضوم جيداً، والنساء عموماً أبطأ في إفراغ ما يتجمع في معدتهم، مقارنة بالرجال، كما أن وجود مواد دسمة في الطعام أو التدخين عوامل في إبطاء إفراغ المعدة.
معدة خالية وأخرى مليئة
وبالنظر إلى الاحتمالات النظرية لتناول دواء معين، فإننا إما أن نتناوله على معدة خالية أو على معدة مليئة بالطعام، وبالاصطلاح الطبي، فإن تناول دواء على معدة خالية يعني قبل الأكل بساعة أو بعد الفراغ منه بساعتين. وتناوله على معدة مليئة يعني أثناء أو بعد الأكل مباشرة.
وهنا علينا النظر إلى تأثير ثلاث عوامل على امتصاص الدواء بفعل خلو أو امتلاء المعدة، وهي:
أولاً: سرعة أو بطء وصول الدواء إلى الأمعاء، والسرعة قد تكون مطلوبة في أنواع من الأدوية، بينما قد يكون البطء هو المطلوب في أنواع أخرى منها، وحينما نتناول حبة دواء على معدة خالية، فإنها ستصل إلى الأمعاء سريعاً، وهنا قد تمتصها الأمعاء سريعاً، وبالتالي تحصل "قمة" سريعة ووحيدة لارتفاع نسبة الدواء في الدم.
أما لو تم تناول تلك الحبة الدوائية على معدة مليئة بالطعام، فإنها ستصل إلى الأمعاء متأخرة نسبياً، وبكميات متتابعة، لأنها غالباً ما تكون قد ذابت في المعدة وامتزجت بالطعام فيها، وبالتالي فإن ارتفاع نسبة الدواء
منقول