إنَّ الكونَ ذلكَ الكتابُ الجميل الصَّفحات، العجيب التكوين، يفتَحُه القرآنُ ويقلِّبُ صفحاتَه واحدةً تلوَ الأخرى.. تلكَ الصَّفحاتُ مليئةٌ بلمساتِ الجمالِ الفنيّة، ومَن تَدبَّرها وتذوَّقَ فيها ظهرَت له ملامحُ تلكَ اللَّمسات.. و أبرز ما يُظهرُ تلك الملامح: الألوان، التي تُضفي عليها رَونقاً بديعاً.
وإني لن أشملَ تلكَ اللَّمساتِ وما فيها من تذوُّقٍ وإبداع، وإنما هي لفَتاتٌ قليلةٌ نتذوقُ فيها سويّاً بعضَ تلكَ الصور الفنيّةِ التي أبدعها الخالقُ جلَّ وعزَّ من خلالِ أمثلةٍ بسيطةٍ نربطُ فيها بينَ القرآنِ وعلم النَّفس.
وردَت الألوانُ في القرآنِ الكريمِ في مواضعَ عِدّةٍ بصيغةِ المُفرد والجَمع، أما صيغةُ المُفرد: «لون» فوَردت مرَّتَينِ في آيةٍ واحدةٍ مِن سورة «البقرة» وهي قوله تعالى?: ? قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ? [البقرة: 69 ].
وأما لفظةُ «ألوان» فوَردت في سبعةِ مواضعَ في ستِّ آياتٍ منها قوله تعالى?: ? وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ? الروم 22، ومنها أيضا قوله تعالى: ? وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ? [النحل: 13].
وإن المتأملَ في الألوانِ ودلالاتِها في القرآنِ الكريم يدركُ أنه لا بدَّ من علاقةٍ وتأثير لتلكَ الألوان على النُّفوسِ والأرواح، ولا بدَّ من أسرارٍ وراءَ تلكَ اللَّفتات واللَّوحاتِ البديعة في القرآن، فقد قالَ علماءُ النَّفس: « إنّ تأثيرَ الألوانِ فينا شديد، وإنَّ الألوانَ تؤثِّرُ في سعادَتنا وكآبَتِنا، وفي إقدامِنا وإحجامِنا، ورُبمَّا أشْعَرَنا ذلكَ اللَّونُ بالحرارة، أو بالبرودة، بل رُبَّما أثَّرَ اللونُ في شخصيّةِ الإنسان، ونظرتِه إلى الحياةِ فإنَّ لكلِّ لون سرٌّ وتأثير ».
فاللونُ الأبيض مثلاً يدلُّ على النَّقاءِ والصفاء، ولهُ دلالة على ظهورِ الحقِّ من غيرِ زَيفٍ ولا شكّ، وهكذا هي دلالَتُه في قوله تعالى?: ? وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ? [الأعراف: 108]، ولذلكَ نجدُ مولانا جلَّ وعزَّ يصفُ وجوهَ أهلِ الرَّحمة والغفران بالبياض؛ لدلالتِه على? النُّور والإشراقِ كما في قوله تعالى?: ? وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [آل عمران: 107].
وفي انتقالِ البياض إلى الحُمرة في الصخور لفْتةٌ تُوقِظُ حاسّةَ الذَّوقِ الجماليِّ الرَّفيع في قوله تعالى?: ? وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ? (1) [فاطر: 27].
فاللهُ سبحانَه وتعالى خلقَ الجبال مختلفةَ الألوان، فالجُدد البيض مختلفٌ ألوانها فيما بينها. والجُدد الحُمر مختلفٌ ألوانها فيما بَينها، في درجةِ اللونِ والتظليل، والألوان الأخرى المتداخلة فيه (2) التي تنتقلُ منَ البياض الهادئ الصافي إلى الحُمرةِ وما فيها من قُوّةٍ في اللونِ والحرارة فكأنها ألوانٌ تعددت في لونٍ واحد.
واللونُ الأسود ومشتقاتُه لونٌ دالُّ على الغُموض، وفيه دلالةٌ على? الخِزي والخُسران، وهو غالباً ما يَرتبطُ بوصفِ الكافرينَ والمنافقينَ وأحوالَهم، ومثالُه: قولُه جلَّ وعزّ: ? يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ? [آل عمران: 106].
أما اللونُ الأصفر: فهو لونٌ طويلُ الأمواج، غالباً ما يدلُّ على النَّشاطِ والفرح، لذلكَ يقولُ علماءُ النَّفس: «إذا أردتَ أنْ تُعلِنَ إعلاناً صارخاً في الطُّرقاتِ العامّةِ مثلاً، فهوُ أطولُ أمواجاً من غيره مِنَ الألوان، يُنشِّطُ الجهازَ العصبيّ، ويؤثِّرُ فيهِ أبلغَ التأثير»، وسُبحانَ من قال: ? إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ? [ البقرة: 69]، قالَ وَهب بن مُنبّه في وصفِ البقرة : «كانت كأنَّ شُعاعَ الشمسِ يخرجُ من جلدها، فمعناه: تُعجبُ الناظرين»، ولهذا قالَ ابنُ عباس: «الصُّفرةُ تَسرُّ النَّفس»(3).
وإذا التفتنا إلى اللون الأزرق فقد ورد في قوله تعالى: ? يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ? [طه: 102]. قالَ العلامةُ البيضاويّ (4) في تفسيرِ الزُّرقة في هذه الآية : «زُرْقاً: زُرقُ العيونِ وُصِفوا بذلك؛ لأن الزُّرقةَ أسوأُ ألوانِ العين وأبغضها إلى العرب». فدلَّت الزُّرقة هنا على ذلك، حتى إنَّ أطباءَ العيون اليوم يخبروننا بأنَّ الأعينَ الأكثر حساسيّة وعُرضة للتأثُّرِ بالعواملِ الطبيعيّة وغيرها هي تلكَ العيون الزرقاء.
أما أكثرُ الألوانِ وروداً في آياتِ القرآن: هو اللونُ الأخضر الذي قالَ عنهُ علماءُ النَّفس: «أنّه لونٌ مريحٌ للبصر، يبعثُ السرورَ داخلَ النفسِ ويثيرُ بواعثَ البهجةِ فيها، ويبعثُ الهدوءَ والسَّكينة»
وأغلب مواضع هذا اللون في آيات القرآن الكريم امتازَت بالرِّقةِ والدَّلال.وذلك في وصف أهلِ الجنّة وما هم فيه من آلاء وأرزاق، كقوله جلَّ وعز: ? وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ? [الكهف: 31]، وقوله: ? مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ? [ الرحمن : 76] ، فكأنّ الخُضرةَ من أسرارِ سعادَتهم في دارِ الخُلد حتى في المساند التي يتكِؤونَ عليها والملابس التي يلبَسونها .. وإنّها لنِعمةٌ وأيُّ نعمة.
وأخيراً… فما هذه إلا بعض اللَّفتات الكونيّة تتبَّعتُ فيها أمثلةً بسيطةً في الألوانِ ظهرَ فيها عنصرُ الجمال؛ ليبقى القلبُ مأخوذاً بذلكَ المعرضِ الإلهيِّ الرائع الذي يشملُ الأرضَ جميعاً. فسُبحانَ الله العظيم، اللهمَّ اجعل القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلوبِنا ونوِّر به دروبنا.. واجعلهُ حُجّةً لنا لا علينا، وصلِّ اللهمَّ على سيِّدنا مُحمَّد الحبيب وعلى آله وصَحبه وسلِّم.
/