دكتور / جمال محمد شحات
محاسب قانوني ومستشار مالي
زميل المعهد الامريكى للمستشارين الماليين
زميل المعهد الامريكى للرقابة الداخلية
Ph.D، MBA، CFC، CFA، CPM، MFM، CICA، CRA
الخوف من المدخل الكينزي ..!!
منذ ان تراجعت ثقة الرئيس أوباما- فى الهاوية المالية - بصورة كبيرة في رجال أعمال القطاع الخاص الذين حرصوا على الاستفادة من الاعفاءات الضريبية في الوقت الذي لا يتزايد فيه انفاقهم الاستثماري، مرددين بأن على الحكومة أن تحمي حالة الثقة في الاقتصاد حتى يتمكن قطاع الأعمال الخاص من زيادة مستويات الاستثمار واعادة ملايين العاطلين الى العمل مرة أخرى، وأن رفع الضريبة سوف يؤدي الى الاضرار بهذه العملية. ومع أنه تم خفض الضرائب فإن انفاق رجال الأعمال الاستثماري لم يزد،وهو ما اثار اوباما فى صراعه مع معارضيه مؤخرا واعتبرهم انهم يحاولون عرقلة الاقتصاد الامريكى ويعيد للاذهان الحالة الكينزية بالضبط ..!!
فقد كان كينز يرى أن الوضع الأمثل في ظل هذه الظروف هو التدخل الحكومي المباشر من اجل العمل على فتح المزيد من الوظائف وخفض الضغوط في سوق العمل، ولكن هذه الأفكار تواجه بشراسة من اعداء التدخل الحكومي الناجح لمعاجلة حالات الضعف الكامنة في الاقتصاد، خوفا من أن هذا التدخل الناجح ربما ينعكس لاحقا في التمهيد لعودة عملية التدخل الحكومي في تسيير امور الاقتصاد وتحويلها الى أمر مستحب ان لم يكن واجبا ..!!
منذ ان صدر كتاب كينز حول "النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود"، حتى واجه معارضة شديدة من المحافظين الذين يرفضون أي تدخل للحكومة في قوى السوق الحر، وذلك من منطلق ايمانهم بأن قوى السوق الحر قادرة على اعادة التوازن للاقتصاد واعادة ملايين العاطلين للعمل مرة اخرى طالما انه لم يتم الاضرار بحالة الثقة العامة لقطاع الاعمال في الاقتصاد وقوى السوق.
غير أن العالم الذي وصفه كينز في كتاب النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود كان مختلفا تماما عن هذه النظرة للسوق الحر. فعالم كينز هو العالم الذي تتوافر فيه نفس الأوضاع التي كانت سائدة في الثلاثينيات من القرن الماضي والتي دفعته الى تقديم كتابه الشهير والتي وضع فيها نظريته في معالجة الكساد، والذي أحدثت تطورا هائلا على صعيد التحليل الاقتصادي الكلي ومهد لظهور هذا الفرع من علم الاقتصاد كعلم مستقل.
ومع ذلك فما زالت أفكار كينز تحارب حتى يومنا هذا، على سبيل المثال غالبا ما ينظر بإعجاب الى بول سامويلسون باعتبار أنه هو الذي تولى مهمة نقل النظرية الكينزية الى الجامعات الأمريكية من خلال كتابه الشهير Economics، غير أن بول كروجمان يروي أن كتاب سامويلسون لم يكن أول كتاب يتناول تقديم النظرية الكينزية، فقد سبقه كتاب للاقتصادي الكندي لوري تارشيس، لاقى معارضة شديدة من اليمينيين باعتبار أن افكار كينز ينظر اليها على أنها افكار مضادة للرأسمالية، وأن الجامعات قد تعرضت لحملات منظمة وقوية في الاربعينيات لمعاداة هذا الفكر..!!
بل إنه في عام 2005 اصدرت المجلة اليمينية "Human events" عددا اشارت فيه إلى أن كتاب كينز حول النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود هو واحد من أشد عشر كتب ضررا بالعالم والتي صدرت في القرن التاسع عشر والعشرين بما فيها أيضا كتاب رأس المال لكارل ماركس. وهكذا ظل الكثيرون يعتبروا ان كينز من اشد اعداء الرأسمالية فى العالم فى عصرنا الحديث ..!!
ولكن لسوء الحظ وجد العالم نفسه في عام 2008 ابان الازمة المالية العالمية يعيش في مرة أخرى "عامل كينز" أي في اقتصادات تعاني من قصور شديد في الطلب الكلي، وهي القضية التي ركز عليها كينز بشكل أساسي في نظريته. حيث اصبح نقص الطلب الكلي هو المشكلة الأساسية التي يواجهها العالم حاليا، في ذات الوقت فإن الحلول القائمة على السياسات النقدية وأهمها خفض معدلات الفائدة لم تؤد الى تقديم حل مناسب لمشكلة تراجع مستويات الطلب الكلي. للتعامل مع هذه المشكلة، ولذلك كان كينز يرى بأنه لا بد من حدوث زيادة- ولومؤقته - في الانفاق الحكومي للمساعدة على التعامل مع قصور سوق العمل، وخفض الديون على المقترضين.
ويقول بول كروجمان فى كتابه ( نهاية الاكتئاب الآن ) : للأسف الشديد لاقت افكار كينز معارضة شديدة في الكثير من المناطق في العالم، خصوصا من الاقتصاديين الذين يؤمنون بحرية السوق وحماية رأس المال، أو بمعنى أقرب حماية الأغنياء، فالمحافظين غالبا ما يعارضون فكرة أن تتدخل الحكومات لمعالجة الأوضاع الاقتصادية السيئة، باعتبار أن ذلك يمهد للأفكار الاشتراكية، على الرغم من أن كينز لم يكن اشتراكيا ..!!
و في ظل نظام السوق الحر يعتمد التوظف الى حد كبير على الثقة في أوضاع الاقتصاد، فإذا ما تأثرت هذه الثقة فإن الاستثمار الخاص يتراجع على نحو كبير وهو ما يؤثر بصورة مباشرة على مستويات الناتج والتوظيف وبصورة غير مباشرة من خلال تأثير انخفاض الدخل على الاستهلاك والاستثمار..!!
ولقد حرص أصحاب الفكر الرأسمالى التقليدى على ممارسة قدر كبير من السيطرة على السياسات الحكومية، لمحاولة تجنب أي شيء يمكن أن يؤثر بصورة سلبية على حالة الثقة في الاوضاع الاقتصادية، لأن ذلك يمكن أن يتسبب في نشوء أزمة اقتصادية وهو ما ظهر جليا قبل الازمة المالية العالمية وفى طريقة معالجتهم لتداعيات تلك الازمة ..!!
و في ظل هذا المناخ وسيطرة مثل هذه الأفكار فقدت القوة التي يمكن أن تحدثها السياسات الحكومية والتي اقترحها كينز من خلال التعامل مع قصور نظام السوق قدرا كبيرا من أهميتها، بما في ذلك العجز في الميزانية والذي يمكن أن يمكن الحكومة من التدخل في قوى السوق بشكل مباشر..!! ولقد شهدت الولايات المتحدة دفاعا مستميتا عن أهمية حماية الثقة في آليات السوق وعدم التدخل من جانب الحكومة بصورة مباشرة لمعالجة النتائج التي ترتبت على الأزمة مع ما حدث من هجوم على تلك السياسات التقليدية والتى اعتبروها انها عمقت من الازمة وعدم سرعة الاتهاء منها ..!!
ولا شك أن ذلك لو حدث بهذه الصورة فسوف يؤثر سلبا على الفئات ذات الدخول الأعلى، وهي الفئات التي تحرص دائما على أن تجعل التدخل الحكومي في شئون الاقتصاد عند حدوده الدنيا حتى لا ينعكس ذلك عليهم في صورة الزامهم بدفع المزيد من الضرائب، هذه النظرة لنظرية كينز مازالت على نفس المستوى من الحدة والتي عملت عبر سنين طوال على محاولة محو الأفكار التي اتى بها كينز خوفا من تضخم حجم الحكومات وزيادة دورها في الاقتصاد الحر وهو غير مستحب لديهم ..!!
في المقابل تم الترويج لقيم حرية السوق والأفكار الخاصة بكفاءة أسواق المال على الرغم من أنها أفكار جيدة عندما تسطر على الورق، أما على
أرض الواقع فالأمور ربما تسير على نحو مخالف تماما، ولكنها افكار تم الترويج لها بشدة باعتبارها معارضة لأفكار كينز التقلدية .
وعلى الرغم من أنه خلال الازمة العالمية فى الثلاثينات من القرن الماضى وكذلك في الازمة المالية العالمية الحالية لم يكن لمثل هذه الأفكار أي صدى على أرض الواقع ولكنها حرب الافكار لكينز واتجاهه الذى اعتبر مواجها للرأسمالية التقليديه فوقفوا يحاربونه بالرغم من عدم وجوده الحقيقى ..!!